ذكرى مرور عام على الرحيل.. دكتور محمود بكري الحاضر رغم الغياب

ذكرى مرور عام على الرحيل.. دكتور محمود بكري الحاضر رغم الغياب

يقولون: إن الأماكن تفتقد ساكنيها.

حقيقة شعرنا بها بعد عام من غيابك فالمكان لم يعد نفس المكان.

والروح فيه أصبحت باهتة.

نفتقد كلامك ودعمك ومناقشاتك.

يفتقدك (الأستاذ ) اللقب الذى كنت تحب أن تنادى به شقيقك وتوءمك، كبير عائلة «الأسبوع» مصطفى بكرى.

نعم يفتقدك فى كل شىء: فى تنظيمك وترتيبك.

.

فى دقة مواعيدك وفي صباحاتك ونشاطك.

حتى في الضحكة التي باتت تخرج ناقصة فقد غابت معك الضحكة والفرحة عن الجميع داخل جدران بيتنا «الأسبوع» الذى ما زالت أسرة التحرير تفتقده بين اللحظة والأخرى مع كل عدد نتناقش فى سياسة تحريره، ومع كل مناسبة نتذكر فيها كيف كنت تخطط لها بدقة وإتقان.

70 يومًا قاسية:سبعون يومًا قاسية عاشها الجميع وهم موقنون بأنك ستعود، فقد عهدناك قويًّا مثابرًا لا تخشى الصعاب.

كنت ترقد فى المستشفى لأكثر من شهرين بسبب تلك الوعكة الصحية التى كنا نظن أنها بسيطة.

لكن بلا مقدمات تدهورت حالتك الصحية سريعًا، وعندما كنا فى زيارتك فوجئنا بأنه غير مسموح لنا إلا بأن نراك من خلف زجاج العناية المركزة.

لتغلب الغيبوبة الجميع ويتمكن الالتهاب الرئوي من صدرك الذي كان يتسع للجميع.

لتتوقف أنفاس الجميع وهم يدعون لك بأن تخرج سالمًا.

كنا نزورك لنراك من بعيد بحسب تعليمات الأطباء لكنك كنت قريبًا منا بروحك التى كانت شريكة فى كل التفاصيل ولا يمكن أن ننسى منها أقل القليل.

كان الأطباء يصارعون الوقت ويحاولون بشتى الطرق معرفة ما حدث.

فقد كنت قبل أيام فى أفضل حال وأذكر أننا اتفقنا أنا وحنان السمني معك على حملة قوية لمواجهة تشويه القرآن الكريم، أذكر عندما توقفنا وأخبرناك بالتفاصيل فكان الرد: لنبدأ العمل فورًا.

(أذيعك سرًّا لم ننفذ الحملة حتى الآن ) تاهت منا التفاصيل والأفكار وبات الحزن على غائب كان يمدنا بكل الدعم والقوة.

نعم كنت أنت يا دكتور محمود الذى نذهب إليه لنخبره بحملات جديدة منها ما لم يكتمل ومنها ما أثار التساؤلات من قضايا التمويل الأجنبى إلى فساد الأدوية وغيرها من القضايا والمغامرات التى كنا نجلس فيها معك لنضع الخطة والتفاصيل ونجهز الحبكة الصحفية بمهارة فنية.

كيف ننساك وننسى مواقفك الطيبة التى كانت معنا لآخر لحظة ومنها خدمة لعزيز لدينا كنت حريصًا على أن تنهيها له ورغم مراوغة المسئول لتأجيل الحق لشهور لكنك بذلت قصارى الجهد ليتم الإنهاء فى أيام لتدخل بعدها مباشرة إلى المستشفى.

وقتها تساءلنا: لماذا حرصك على أن تنهي كل الأمور «المعلقة»؟ وكانتِ الإجابة: لأن دائرة الحياة «مغلقة».

كانت أيام مرضك تمر ثقيلة على الجميع الذين كانوا يتابعون ما يقوله الأطباء عن مرض نادر لا يصيب إلا واحدًا من كل 10 ملايين وكنا نلهج بالدعاء لله أن تعود إلينا.

فلم نتعود منك على الرقاد أبدًا لكن إرادة الله كانت لها الكلمة العليا وانتهت رحلة الحياة.

وشاء الله أن يسترد الأمانة يوم 9 مايو بعد محاولات عديدة ومقترحات للعلاج بالخارج لكن كان الرأي الطبي أن الأمر لن يتغير كثيرًا كنا وقتها نلهج بالدعاء ومعنا كثيرون جاءوا إلى مقر الجريدة يتابعون ويسألون ويدعون معنا عسى أن تجد دعواتنا عند الرحمن مخرجًا.

لكن كانت إرادة الله أن تنتهي الرحلة عند هذا الوقت لتكون وصيتك الأخيرة لأولادك أن يقبِّلوا رأس عمهم مصطفى بكرى ويكونوا تحت طوعه.

وهو ما حدث ونراه بأعيننا حتى الآن.

والوصية الثانية أن يكون مثواك الأخير هناك في المعنَّى بمحافظة قنا بجوار أبيك وأمك رحمة الله عليهما ورضوانه.

ليخرج توءم روحك وهو يلملم شتات روحه ويعلن لنا جميعًا أنك لم تعد موجودًا.

في حالة نعلم كم هي قاسية عليك وكأنك تعلن خروج روحك من جسدك (ولم لا والغائب هو محمود بكري؟) كانت كلمات الشقيق تبكى دمًا وهو يقول:رحل الحبيب، رفيق الدرب الطويل، رحل أخي وقرة عيني النائب د.

محمود بكري، رحل الذي أفنى حياته في خدمة الناس، رحل نائب الفقراء والمساكين الذي كان يعمل في صمت، رحل أعز إنسان في الحياة، كأنه كان يشعر بدنو الأجل، ودَّعنا وودَّع أسرته وأبناءه بينما هو يُعالَج في المستشفى، قال لنا أمي وأبي يناديانني وقد حلمت بهما.

وتابع بكرى: طلب محمود من الجميع العفو والسماح وهو البلسم طيب القلب، رحل الرمز الوطني والإنسان الجسور، رحل الطاهر النزيه.

أسأل نفسي: كيف تكون الحياة بدونك يا شقيقي ويا روحي؟ قبل أن يرحل كان يريد أن ينهي كل شيء، مشروعات دائرته في حلوان، مذكراته، أشياء كثيرة كانت مثار دهشة وتساؤل، رحم الله أخي الحبيب.

نهاية الرحلة:كانت الوصية للأبناء أن يكونوا تحت طوع العم (رب الأسرة الأكبر ) وهم على العهد سائرون.

أبناء يفرحون القلب والعين.

وكانت الوصية الثانية أن يكون المستقر الأخير فى قنا التى منها جئت وإليها عدت لتكون مستقرًّا أخيرًا لك.

نعلم أنك تذوب حبًّا فى بلدك التي وُلدت فيها وتعلمت فيها حتى الثانوية العامة ومنها إلى أسيوط حيث تخرجت لتنطلق بعدها إلى القاهرة حيث العمل في بعض الصحف والمجلات.

من الأهرام إلى الشعب ثم الأحرار و«الأسبوع» رئيسًا لمجلس الإدارة ولموقع «الأسبوع» منذ عام 2015.

ثم رئيس تحرير برنامج حقائق وأسرار.

وعضوية مجلس الشيوخ عن القائمة الوطنية في عام 2020 عن دائرة حلوان.

المسيرة:المسيرة كانت متنوعة بين العمل الصحفي والسياسي وكان العمل الخيري أيضًا فى القلب من الجهد المستمر فلم ينسَ محمود بكرى حق الإنسان فكان العمل الخيري هو عشقه الدائم وكانت عينه على الفقراء والكادحين منذ كنا معه في حلوان وكانت صحيفة «صوت حلوان» صوت الفقراء والكادحين.

وقد كانت لنا معه فيها صولات وجولات وحروب عندما قرر الأستاذ مصطفى بكرى أن يخوض معركة الانتخابات فى منطقة كان لها فى القلب نوع خاص من الحنين.

فحلوان هي قلعة العمال والكادحين ومنها كانت الانطلاقة كنا نعتبر تلك الصحيفة المحلية هي صوت الناس وكلمتهم المنطوقة بكل الحقوق فكانت في حقبة التسعينيات جريدة محلية يخشاها الجميع.

وكانت تلك الصحيفة المحلية القوية هي صوت الناس بعد قرار الأستاذ مصطفى بكري خوض الانتخابات ضد وزير الأوقاف في ذلك الوقت والذي كانت له سلطة وسطوة في كل مكان وكانت كتيبة من الشباب تقوم بممارسة عملها الصحفي لتكشف مواطن الفساد وتتابع حلول المشكلات مع أهالي حلوان التي وقع الأخوان بكرى فى غرامها ودفعا ثمنًا كبيرًا من أجلها.

ليصبح مصطفى نائبًا عن حلوان لمجلس الشعب ويظل محمود أسيرًا في حب حلوان وأهلها يتابع مع أخيه ومعنا كل صغيرة وكبيرة لتعيش تلك المدينة التي تقع جنوب القاهرة أزهى عصورها وتمتد إليها يد الخدمات مع مصطفى بكرى أثناء عضويته لمجلس الشعب ثم تنتكس بعد خروجه منها لتعود لقمة مجدها مرة أخرى مع وجود محمود بكرى عضوًا بمجلس الشيوخ عن حلوان ومايو ولهذا الأمر حكايات وحكايات.

وفي «الأسبوع» كانتِ المعارك على أشدها لصحيفة وُلدت «جسورة» بعزيمة «شباب أشداء«» رهنوا حياتهم في كتيبة الدفاع عن الوطن، وسهروا، بتعاظم لا ينقطع، مدافعين بكل بسالة عن حقوق بسطاء هذا الوطن وشرفائه.

كنت معنا أنت وتوءم روحك مصطفى بكري تشدان من عزم مجموعة من الوجوه الشابة في السابع عشر من فبراير 1997، لتؤسس لصحافة حرة جريئة، ومقتحمة، ولا تهاب إلا الله.

.

تدافع عن الشعب المقهور، وترفع صوته بكل شجاعة لنؤسس تلك التجربة الثرية التى خرج من بين جدرانها كوكبة لامعة في بلاط صاحبة الجلالة.

كانتِ «الأسبوع» كما وثَّق محمود بكري ( تسعى عبر مصطفى بكري بالحِرفية حينًا، وبالمناورة حينًا، وبالمبدئية دائمًا، فيمسك بشراع الصحيفة ليدفع بها إلى الأمام، وليتجنب الضربات الفتاكة، كلما اقتربت من بوابات صحيفتنا).

لتظل صامدة حتى اليوم (أكثر من 27 عامًا) وهي فترة طويلة لاستمرار صحيفة مستقلة على أرض الوطن، لتكون الوحيدة، والأولى بين الصحف المستقلة التي حققت هذا الإنجاز الكبير وغير المسبوق، وتمكنت من توطيد أركانها في أرض الوطن، حين انحازت إلى القارئ، صاحب الفضل الأول في استمرارها.

كانتِ «الأسبوع» تضع مسارًا مختلفًا للصحافة فى مصر فالصحف كانت إما قومية وإما حزبية وتأتي «الأسبوع» لتجعل لهما ثالثًا (صحافة مستقلة همّها الدفاع عن الوطن وأهله ) وقد وثَّق محمود بكري تلك الأيام (قبيل صدور «الأسبوع» تلقينا التهديدات بأن هناك مَن سوف يبذل المستحيل حتى لا نعود مجددًا للساحة، لدرجة أن البعض نصحنا بالبحث عن ترخيص أجنبي، نعود من خلاله إلى ساحة الصحافة.

.

وكان الكثير من المسئولين يتخوفون من حملاتنا الصحفية القوية، ومواقفنا الثابتة التي لا تعرف لغة المهادنة في قضايا الناس والوطن.

راح هؤلاء يضعون العراقيل، ويحاولون بكل السبل منعنا من الحصول على ترخيص للصحيفة).

.

يوثِّق محمود بكرى تلك اللحظات (لقد أكد لنا البعض منذ البداية صعوبة الموافقة على ترخيص مستقل، لشخص، يوصف لدى بعض الجهات بأنه «مشاغب» وخرج من جريدة «الأحرار» بمؤامرة شارك فيها الكثيرون ضده).

وقد وثَّق الراحل رسالة «الأسبوع» وأن جهادنا في مواجهة عدو الماضي والحاضر والمستقبل، لن يتوقف إلا بتحرير كل جزء من أرضنا السليبة، ولن يتوقف إلا بعودة القدس الشريف، وفك القيود المفروضة على الأقصى الأسير.

.

كان يقول: إنْ قصفوا أقلامنا فسوف نحاربهم من كل حارة في أرض مصر.

.

من قرية فقيرة في عمق الصعيد.

.

من وسط العمال في حلوان العظيمة.

.

من كفور الغلابة في وسط الدلتا.

.

وسوف تبقى راية النضال مرفوعة إلى الأبد في مواجهة آل صهيون.

.

سوف نعلِّم أطفالنا حب الوطن، وكراهية الأعداء.

.

وسوف نثبت في قلوبهم روح الانتقام لشهداء دير ياسين وبحر البقر وأبوزعبل، وقانا.

.

سوف نعلمهم أن لهم أشقاء صغارًا، يموتون من الجوع في أرض بغداد الباسلة، وأن إخوتهم على الحدود محاصَرون في ليبيا، وأن المؤامرة تنفَّذ على حدود السودان، ومن يدري، فقد تمتد غدًا إلى مصر العظيمة.

رحلة المشي على الأشواك:رغم الألم تسير الحياة والمسيرة لا بد أن تستمر حتى لو كانت تمر هذا العام وهي مغلَّفة بالحزن لغياب محمود بكري العمود الرئيسى من أعمدتها الذي كان يحرص على أن يجمع الكل وكان غيابه حزينًا على الكل.

لكن لأنها إرادة الله وسُنة الحياة لا بد أن نستمر على نفس الميثاق الذي ينبع من حق المواطن وثوابت الوطن وهو النهج الذي تسير عليه «الأسبوع» صحيفة وموقعًا يديره أبناؤها بمعاونة شباب لديهم من الحماس للعمل المتميز ما يجعل كل مَن مر على «الأسبوع» يعرف أن المكان له رحيق مختلف وله قواعد مختلفة أول ما فيها الإخلاص لمهنة القلم.

كما لخصها الراحل فى كتابه الذى حرص على أن ينهي كل تفاصيله قبل وفاته بأيام وهو ما كان مثارًا لدهشة الجميع الذين كانوا يتساءلون: لماذا حرصك الشديد لأن تنهي كتاب (المشى على الأشواك) في أسرع وقت؟ ربما كنت تريد أن تسجل آخر محطات حياتك بيدك.

فالكتاب يتناول مسيرة حياة الشقيقين من قنا إلى القاهرة، وذكرياتهما خلال فترات السجن، التي قضياها سويا دفاعًا عن مواقفهما السياسية والمشاكل والأزمات التي خلفتها المعارك الانتخابية للنائب مصطفى بكري، والتي كان محمود دينامو هذه المعارك.

وهو يصفها فى الكتاب: «قد يحار المرء حين يكتب عن عصر عاصف.

.

وأمواج مضطربة.

.

وتحولات كبرى عشت تفاصيلها، بوجداني، وأحاسيسي.

.

لحظات انتصار ومحطات انحدار.

.

طموحات كبرى.

.

وحصاد محدود الأثر.

.

صدمات سياسية.

.

وانقلابات فكرية.

شيزوفرينيا السياسة تذوقت مرارتها، وأنا أرقب هذا التبدل في وجوه الساسة، وتغير أقنعتهم بين الفينة والأخرى.

.

من هناك.

.

في قريتي «المعنَّى» كنت أشارك شقيقي الأكبر «مصطفى» حلم العبور إلى قاهرة المعز ليصل صوت أهلنا البسطاء الذي لم يعبر يومًا سكة حديد قنا ولم يبارح مقام «سيدي عبد الرحيم القنائي».

.

تسلحنا بإرادة أهلنا وصممنا ألا نتركهم فريسة الإهمال المتعاظم: فشققنا في جسد الجبل المحيط بقريتنا الجسور لبلوغ غايتنا.

.

وهي غاية مشروعة لكن الوصول إليها كان مؤلمًا وصادمًا بل ومكلفًا لأبعد مدى».

ومضى محمود بكري يصف في الكتاب: «السنوات الطوال من المطاردة والملاحقة والتنكيل وخضوعنا للسجن أو التهديد وتعسف وظلم وجور تجرعناها حتى اكتوت قلوبنا بلهيبها.

.

وامتلأت مشاعرنا بنيرانها.

.

لكننا أبدًا لم نخر في ثوابت آمنا بها.

.

وأهداف وضعناها نصب أعيننا أن نكون صوتًا لأهلنا في المعنَّى وفي قنا وفي كل أنحاء الصعيد المحروم بل دفاعًا عن كل أبناء مصر وأمة العرب.

.

تحملنا الكثير في مسيرة الصبر وأدركنا أن الاضطهاد الذي لاقيناه والظلم الذي تجرعناه كان ثمنًا يسيرًا لتضحيات كبرى يستحقها أهلنا ووطننا العظيم الذي كرسنا جل حياتنا للذود عنه.

.

ولعل تلك الفصول الأحد عشر عزيزي القارئ والتي بين يديك في تلك الرواية هي تجسيد حي وواقعي لتفاصيل ومغامرات ومعارك قاسية عشنا وطأتها في مراحل من الصدام الكبير والمواجهات الصعبة».

مصر      |      المصدر: بوابة الأسبوع    (منذ: 2 أسابيع | 6 قراءة)
.