سورة الفاتحة في بعدها العقدي والسياسي

تمهيد قبل التعايش مع هذه السورة في بعدها العقدي والسياسي، أنبه إلى أن السبب الرئيس الذي حملنا على التفكير في موضوع كهذا، هو ما وجدناه من مزاعم لا تكف الألسنة عن الترديد لها، اعتقادا منهم أنهم قد وقعوا على الحقيقة التي لا حقيقة بعدها، وهي:” أن مرور الزمان غير طرق الحياة الإنسانية، فالحياة الثقافية، والعيشة الصناعية، وحضارة اليوم، لا تشبه الحياة الساذجة قبل أربعة عشرة قرنا، المقتصرة على الحياة الطبيعية الابتدائية فقد بلغ الإنسان إثر مجاهدته الطويلة الشاقة مبلغا من الارتقاء والتكامل المدني، لو قيس إلى ما كان عليه قبل عدة قرون، كان القياس بين نوعين متباينين، فكيف تفي القوانين الموضوعة لتنظيم الحياة في ذلك العصر، بالحياة العبقرية اليوم، وكيف يمكن أن تحمل كل من الحياتين أثقال الأخرى؟ بعد هذا التنبيه الذي أعده ضروريا في هذا المقال، إذ من خلاله يمكن للقارئ أن يقارن بين ماهو موجود حاليا في عالم السياسة، وبين ما ترشد إليه السورة في هذا العالم أعني السياسي، الذي يعده الكثير من القوم بعيدا كل البعد عن عالم الإسلام.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} الفاتحة من جانبها العقدي أبدأ الحديث بإلقاء هذه النظرة الشاملة على هذه السورة التي يرددها المسلم سبع عشرة مرة في اليوم في صلاته، فيعدها الكثير من الناس قاصرة على الجانب العبادي دون غيره من الجوانب، وبالأخص الجانب السياسي فأقول: إن هذه السورة لما كانت تتركب من مقاطع ثلاثة: مقطع الربوبية، ومقطع العبودية، ومقطع طلب نوع خاص من الهداية، وجدناها في مقاطعها الثلاثة تقرر أولا أن الحمد كل الحمد لله، وأن هذا الحمد الخاص بالذات العلية ليس مجرد لفظ يردده اللسان، بل هو لفظ له دلالة عميقة يتبينها ذوو الألباب من طريق هذه الأسماء الحسنى أو الأوصاف المثلى التي وقع التركيز عليها في قوله سبحانه : ” الحمد لله رب العالمين، الرحمان الرحيم، ملك يوم الدين”، كتبينهم لها من خلال ما يرشد إليه الواقع الاجتماعي حيث يجدون فيه “أن الذي يحمده الناس ويعظمونه إنما يكون حمده وتعظيمه لأحد أمورا أربعة : إما لكونه كاملا في ذاته وصفاته، وإن لم يكن منه إحسان إليهم، وإما لكونه محسنا إليهم متفضلا عليهم، وإما لأنهم يرجون لطفه وإحسانه في الاستقبال، وإما لأنهم يخافون من كمال قدرته”، فيحصل من هذا وذلك هذا النوع من الاعتقاد الذي يتصورون فيه كأن الحق سبحانه يخاطبهم بمثل هذا القول: “يا عبدي إن كنتم تحمدون وتعظمون للكمال الذاتي والصفاتي ، فاحمدوني فإني أنا الله، وإن كان للإحسان والتربية والإنعام، فإني أنا رب العالمين، وإن كان للرجاء والطمع في المستقبل، فإني أنا الرحمن الرحيم، وإن كان للخوف، فإني أنا الملك يوم الدين”.

وتقرر ثانيا في المقطع الخاص بالعبودية أنه سبحانه لما ميز ذاته عن سائر الذوات من كونه الحقيق بالحمد، لكونه موجدا للكل، منعما عليهم النعم كلها جليها ودقيقها، مالكا لأمورهم يوم الحساب، بين لهم كذلك في هذا المقطع أنه الخليق بالعبادة والاستعانة به، بقوله : “إياك نعبد وإياك نستعين”.

والعبادة المنطوق بها هنا هي كذلك ليست مجرد لفظ يردده اللسان ولكنها عمليا : خضوع لا يحد، لعظمة لا تحد، وهي تدل على أقصى غايات التذلل القلبي والحب النفسي والفناء في جلال المعبود وجماله، فناء لا يدانيه فناء”، إذ العبادة ما هي إلا شعور بسلطان لا يحد، ولا يدرك كنهه ولا تحصى نعمه” (انظر تفسير الشيخ الأكبر شلتوت).

والاستعانة طلب المعونة بعد بذل الوسع في العمل وهي شقيقه العبادة فلا تكون إلا لله، ولا ترجى مطلقة عامة شاملة إلا من الله، والعاقل لا يطلب المعونة إلا من القادر عليها، والله هو القادر، وقدرته شاملة كاملة لا يعجزه شيء، ولا يخرج عن سلطانه شيء، فهو الذي يهيء الأسباب، وهو الذي يزيل الموانع، وهو الذي يعطي إن شاء … ويمنع إن شاء… وفي ذلك سمو للمومنين عن مواطن الذل والاحتياج لبشر أمثالهم، وهم في قواهم محتاجون كاحتياجهم، مستعينون كاستعانتهم، “إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم”، “والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون” (انظر تفسير القرآن الكريم للشيخ الأكبر محمود شلتوت).

كذلك هو الأمر في المقطع الخاص بطلب الهداية، فلقد تبين لنا أن الهداية المطلوبة في هذا المقام الجلل ليست هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري، ولا هداية الحواس والمشاعر، ولا هداية العقل، ولا هداية الدين، فهذه هدايات ممنوحة لكل البشر، مؤمنا كان أو ملحدا، مطيعا كان أو عاصيا، إنما الهداية المطلوبة هي تلك التي يشعر الإنسان بالحاجة إليها أشد من حاجته إلى تلك الهدايات : إنها هداية الإعانة والتوفيق للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة، بناء على أن الإنسان كثيرا ما يكون عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين، وفي استعمال الحواس والعقل، فكان لذلك محتاجا إلى طلب هذا النوع الخفي، من الهداية (انظر تفسير المنار).

الفاتحة من جانبها السياسي هذا عن الجانب العقدي، وأما عن الجانب السياسي، فالذي يبدو من خلال ما ترمز إليه هذه الأسماء الحسنى الواردة في السورة: أن قوله سبحانه : “الحمد لله رب العالمين ” يرشد إلى أنه “إذا كان الحمد لله والثناء عليه مرجعهما وأساسها هو تربية العالم وإحسانه إليه، فما أجدر المومن (شامل للدولة) أن يتخلق بخلق الله، وأن يلتمس الحمد والثناء والرضى من الله عن هذا السبيل”، سبيل أن يكون حمد الأمة للدولة تابعا لم تقدمه الدولة من خدمات للأمة في عالمي التربية الجسمية والروحية، اقتداء بالرب الكريم، وما أجدر “من آتاه الله حق التربية وحمله مسؤوليتها من إمام ، أو أب، أو معلم، أو زوجة، أو كذا، أو كذا -وكلهم راع ومسؤول عن رعيته – أن ينظر إلى ما كلف رعايته على أنه أمانة عنده من المربي الأعظم استخلفه في القيام بها والإحسان فيها”.

والأمر مثله في قوله سبحانه “الرحمن الرحيم” فهو كذلك يرشد إلى أن ربوبيته وملكه للعالم ليس مصدرهما جبروته وقهره، وهو القهار الجبار، ولكن مصدرهما عموم رحمته وشمول إحساسه لجميع خلقه، فإنهم بالرحمة يوجدون، وبالرحمة يتصرفون، وبالرحمة يرزقون، وعلى الرحمة يعتمدون .

.

فمن ثم إذن يجب على الدولة أن تمضي في تدبير شؤون الناس على سنة الرحمة والإحسان، لا على الجبروت والطغيان… وكذلك هو الامر في قوله تعالى: ” مالك يوم الدين” أو “ملك يوم الدين” قراءتان مشهورتان يرشد مجموعهما إلى أن المِلك والمُلك لله الواحد الأحد.

وأنه سبحانه إذا كان “قد خول في الدينا لبعض خلقه شيئا من مظاهر الملك أو الملك تنفيذا لحكمته ونظامه الذي أراده لهذا الكون، ورسم لهم ما يرضيه وما يغضبه، وأوجب على الناس في هذه الحدود طاعة الملوك والمالكين – فإنه سبحانه “قد انفرد في يوم الدين بالملك والحكم والإدانة والجزاء لا يشاركه في ذاك أحد ممن خلق، ولا يشفع أحد إلا لمن ارتضى، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه، يومئذ توضع موازين الآخرة وترفع موازين الدنيا، “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يراه “.

وهو بذلك يعلمنا ويعلم الدولة أن الذي يجدر بالعباد أن يتجهوا إليه بالخضوع والخشوع والاعتراف بالحاجة إليه هو ذلك الذي “تجلت أوصافه ووضحت عظمته وصار ظاهرا في كل شيء حتى لكأنه يُرى ويتوجه إليه بالخطاب : ” إياك نعبد وإياك نستعين”.

والأمر مثله في قوله تعالى: “اهدنا الصراط المستقيم”، والصراط المستقيم هو المبدأ الوسط الذي تسير عليه الشريعة الإسلامية في جميع أحكامها، والذي صلحت به لكل زمان ومكان، واستحقت به الخلود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين (شلتوت).

وبكل هذا يمكن القول إن هذه السورة الكريمة قد استوعبت ما يتوقف عليه كمال الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة : ذلك بأن كمال الإنسان إنما هو باستكمال قوتيه: قوة النظر والعلم، وقوة الكسب والعمل، فبالأولى يدرك الحق ويومن به، ويغذي نفسه وعقله وبالثانية يسلك طريق الخير والفلاح والهدى والرشاد.

وأخيرا هل يمكننا، أن نختم هذا المقال بهذه الآية التي يخاطب فيها الحق سبحانه رسوله الأكرم في شان الذين يحاولون أن يتجاوزوا ما جاء به الدين الإسلامي في قوله تعالى:” قل هل أنبِؤكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ذلك جزاءهم جهنم بما كفروا واتخدوا آياتي ورسلي هزءا” (سورة الكهف 99-101) والله ولي التوفيق (*) أستاذ مادة علم أصول الفقه

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 2 أسابيع | 4 قراءة)
.