وداعا "مِّي عايْشة"...!

“مِّي عايْشة”، هذا رحيلُك الأخير… لن أنتظر عودتكِ بعد الآن سوى في الصور والأحلام وفي أحاديث الذكرى والأنين حين يجتمع أبناؤك وبناتك لتضميد جراح الحزن، وتنفيذ وصايا السنين التي حَفرتْ على جسدك تضاريسَ الزمنِ القاهرِ، والجميلِ حين يسهو…”مِّي عايْشة” هذا الصباحُ حزينٌ، لا الطيرُ يشدو، ولا الأشجارُ تتمايل مع نسائمِ ربيعٍ استحالَ خريفاً حين قَرَّرتِ الرحيل…”مِّي عايْشة”، هذا رحيلُكِ الأخير… ولن أنتظر عودتكِ كما كُنتُ أفعل عند انقضاء كل سفرياتك داخل المغرب أو خارجه…كنتُ أنتظر عودتكِ…أبعثُ النظامَ في الفوضى التي خلَّفها سفرُك…أُرتبُ أوراقي وكتبي وغرفتي لنبدأ العدَّ من جديد…وحين ألتقيكِ أسردُ عليك، فَرِحاً، كلَّ تفاصيل الغياب من الإشراق إلى الغروب على الرغم من التواصل المستمر بيننا عبر الهاتف مرتين كل يوم…أنتِ بالفعل حبٌّ لا يشيخ يا أمي…شبابٌ مُقبلٌ على الحياةِ في فرحٍ طفوليٍّ دُون ضفافٍ… “مِّي عايشة” هذا رحيلكِ الأخير، وهذه الجنازة مختلفة، وهي الأخرى لن تنتهي مثل جنازة أبي.

محمولةً على أكتافِ أبنائكِ، خرجتِ عروسةً إلى مثواكِ الأخير، يَزفونكِ في موكبٍ اختلطت فيه دموعُ الأبناء والأحفاد والأهل والجيران…لا صوتَ يعلو إِلاَّكِ…تلكم أمٌّ تسمو فوق قهر الزمن، لترتقيَّ مدارج الطهرانية والصفاء…لم أعهدكِ إلا قويةً وعنيدةً وصبورةً، لا ترضين ولا تقنعين بما دون النجوم، عزيزة النفس وكريمة حدَّ الإسراف…أعرف أن حبك لأبنائك وبناتك استثنائيٌّ، وأعرف أنك طلَّقتِ العالمَ من أجل أن يجدوا لهم مَوطِأ قدمٍ في هذا المدى الآسنِ الذي يتسع ليضيق على أحلامنا…طلَّقت العالمَ من أجل أن يكونوا “رجالا” و”نساء” كما يقال في لساننا الدارج وفي مأثورنا الشعبي الأصيل…لا صوتَ اليوم يعلو إلا صوت أمٍّ تُزفُّ عروسا إلى مثواها الأخير في جنازة يسكن حزنُها بين الضلوع…تسير السيارات ببطء إلى روضتك الأخيرة فوق ربوة تحيط بها أشجار عالية، تتغنى أوراقُها بصوت شجي حين تَهُب عليها نسمات عليلة من الحقول المجاورة في سكونها الأبدي…هناك حيث مستقَرك الأخير…تقف السيارات.

نحملك على الأكتاف، وأصرُّ على أن أضعك بيدي، صحبة إخواني، في قبركِ…أستجمع قواي وأقاوم دموعي…أُجلي الوردَ والريحان على قبرك…أتراجع خطوة إلى الوراء لأفسح المجال للتراب، كنزُنا الكبير، كي يحتضنكِ في حياةٍ هي حياةٌ أخرى وربيعٌ آخر…مَشيتُ يا أمي في جنازات كثيرة، لكن جنازتك مختلفة، في حب مختلف، في زمن مختلف…يَلف المكانَ صمت رهيب تداعبه نسمات ندية.

يتوقف الزمن ليستأنف دورته من جديد.

يتقدم نحوي الأصدقاء والجيران والأهل لننخرط في عناق مختلف تتحرر فيه الدموع من عِقالها لتنهمر شلالات من الذكرى…هُم يعرفون أنك حبي الذي لا يشيخ، وأنك امرأة لن تتكرر…نعم امرأة لن تتكرر…تِلكم المرأة هي أمي… #div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} حين كنتِ تنظرين إليَّ كل صباح بوجه مبتسم ولا تقوين على الكلام، كنت أسمعك وأجمِّع كلماتك حرفا حرفا وكلمة كلمة…نتواصل بالابتسامة وتعبيرات الوجه والحركات وبحديث القلب…تلك الابتسامة لها طعم خاص.

أفهمك وتفهمينني.

نضحك بعد ذلك.

يتزود كلانا برصيد الحب اللازم لبداية اليوم واستمرار الحياة.

أتناول فطوري.

أتصل للاطمئنان على زوجتي وابني وابنتي.

أصعد إلى طابق المنزل الأول لأبدأ رحلة أخرى مع الكلمات وشغف التنقل بين الألسنة والثقافات…وكان الكتاب الذي أترجمه كتابا في اللسانيات والحقول المتقاطعة…وكنتُ، بعد إنجاز ترجمةِ كلِّ صفحة، أنزل إلى طابق المنزل السفلي، وننخرط من جديد في حديث لا نعلم متى سينتهي…أنظر إليك طويلا وأغرق في ذكريات هي الأخرى لا تنتهي…وعندما أهم بمغادرة الغرفة تمسكين بيدي بقوة، تتطلعين إلى وجهي مبتسمة وتناديني “خويا”، ثم تشعرين براحة غريبة أفهم بعدها كل شيء بصورة أبلغ وأقوى من الكلمات…كنتِ لي(لنا) الزاد في كل خطوة أخطوها، والفرحَ الذي آوي(نأوي) إليه بعد كل رحيل في الحياة وفي الكتابة وفي الحب وفي المصير.

وكنتِ لي (لنا)شجرة ظليلة أستظل (نستظل)بها حين تنكرني(تنكرنا) الوجوه ويجور علي(علينا) الزمان.

وكنتِ لي(لنا) الساعد الذي أضرب(نضرب) به والظهر الذي أحتمي به(نحتمي)…لا أحد سواكِ في هذا المدى، وحدك تتبدين امرأة تُزين حياتنا جميعا بلمسة رقيقة وبنسمة طيبة طاهرة، أنتِ الانسان في لحظات ضعفه وقوته.

أنت الحياة.

يقولون “غيرة النساء قاتلة”، لكن غيرتك يا أمي تجعلني أُولد من جديد…أنبعت كطائر الفينق من الرماد…تحيلني طفلا يتعلم أبجدية الحياة…غيرتُك حياةٌ وحنين وشوق وذكرياتُ فرحٍ اكتمل بكدِّ وتعب السنين، أمَلاً يسمو ويسمو لِيتعالى فوق زحمة الحياة والجري المحموم وراء سرابِ صيفٍ قائظٍ…تلك الأشجار التي أكتب وأراها الآن من الغرفة المشرفة على حديقة منزلنا…تلك الأشجار التي غرستها ذات زمن وفرح مازالت تذكرني بامرأة اختزلتِ الحياة في ابتسامةٍ تراها ترتسم على وجوهنا… بامرأة لم تكن ترغب من حطام الدنيا سوى إشراقة فرح تلمع في أعيننا…بامرأة هي أمي التي ماتزال روحها حاضرة دوما بيننا…بامرأة جعل فراقُها الحزنَ يستوطن قلوبَنا.

.

فيا ليت للحزن جسداً حتى أكفنه وأواريه التراب… وداعا مِّي عايشة…لن ننساك… ورحمةً ومغفرة لكِ ولوالدي العزيز، وصبرا جميلا لكل الذين أحبوك وما يزالون…أنت الحب الذي لا يشيخ…انتهى الكلام، ولم تنته الحكاية…

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 2 أسابيع | 3 قراءة)
.