الوقار والجنون

بعض سنوات العمر لها خصوصية معينة، نابعة في المقام الأول من الصخب الكامن فيها، وغناها بالتفاصيل الجميلة، التي لا تتكرر في مراحل العمر الأخرى، فالطفولة لها تفاصيلها المميزة، والمراهقة لها تفاصيلها المميزة، والشباب له تفاصيله المميزة، وبعد ذلك تبدأ التفاصيل بالتلاشي شيئاً فشيئاً، لتترك وراءها صمتاً قاتلاً، وفراغاً موحشاً.

وتبقى الشيخوخة هي أكثر مراحل العمر ألماً، خصوصاً لو لم نحسن التعامل معها، ونظرنا إليها على أنها مرحلة ضائعة، كل ما علينا فيها هو انتظار الطرقات الأولى للموت.

والكثير من المسنين العرب دفعوا ثمناً باهظاً جراء هذا التعامل الخاطئ، فتراكمت عليهم وساوس العزلة، وأوجاع المرض، لتحيل بقية حياتهم إلى جحيم.

في واحدة من أشهر ساحات العاصمة النمساوية فيينا، قام الموسيقار الهولندي العالمي أندري ريو بمحاولة ناجحة جداً لاستعادة سنوات الصبا والسعادة والمرح، من خلال حفل موسيقى صاخب، ومتعوب عليه، ومليء بالتفاصيل الجميلة، حضره جمهور حاشد تقاطر من مختلف دول العالم، ليشاهد نجوم الماضي، يقفون جنباً إلى جنب مع نجوم الحاضر، في مشهد إنساني جميل، يعيدنا إلى زمن الحب والخير والجمال.

اللافت للنظر في هذا الحفل، هو الإنفاق السخي عليه، والاهتمام بأدق تفاصيله، والنظر إليه كحدث رئيس تُشد إليه الرحال من كل دول العالم، على عكس الحفلات الأخرى التي تقام بميزانيات محدودة، وفي إطار ضيق للغاية، وتفتقر غالباً إلى عناصر الجاذبية والإبهار.

في هذا الحفل لم يكن للشيخوخة وجود، رغم أن أعمار غالبية الحضور تجاوزت الخمسين عاماً، لكنهم استعادوا شبابهم فجأة، وبدأوا على أنغام الموسيقى التي تراقصوا عليها في شبابهم، أما الفوارق فاقتصرت على بعض التجاعيد، والشعر الأبيض، والأفواه الخالية من الأسنان، أما البهجة فكانت شبه كاملة ولم يعكرها إلا غياب بعض أحبتهم ممن رحلوا عن دنيانا مبكراً، وتوسدوا التراب.

في إحدى فقرات الحفل، عزف المايسترو موسيقى الأغنية الشهيرة ماستريخت، فانطلقت الآهات من أفواه الحضور، في مشهد يوحي باستعادة زمن بأكمله، ولحظات موغلة في القدم ظن أصحابها أنها تلاشت من أذهانهم، لكنها طفت فجأة على سطح الذاكرة، فألهبت المشاعر، وأدمعت العيون.

كل ما في ذلك الحفل كان جميلاً، ابتداءً من المايسترو الهولندي النبيل، وانتهاءً بالحضور الحاشد، مروراً بالأوركسترا بكامل أفرادها، والكورال الشبابي الرائع، والمسرح المهيب والساحة الفسيحة، والإضاءة المبهرة، والأرواح المتشبثة بالسعادة والحب والحياة.

إنها باختصار الأعمال الكاملة، التي تعيد للفن رسالته، وللعالم إنسانيته، وللإنسان شيئاً من جنونه الجميل! هل تعرفون ما هي مشكلة بعض مجتمعاتنا اليوم؟ إنها تقدر الوقار كثيراً، حتى وإن كان زائفاً، وتنظر باستخفاف شديد للجنون، حتى وإن كان تعبيراً عفوياً وصادقاً عن حاجة الإنسان لكسر الروتين والانعتاق من القيود.

وهي مشكلة فكرية عميقة ومتأصلة، يحتاج حلها إلى مراجعة مفاهيم كثيرة! 

منوعات      |      المصدر: مجلة سيدتي    (منذ: 2 سنوات | 39 قراءة)
.