الضربة الإيرانية وعودة المكبوت الطائفي في تونس

الضربة الإيرانية وعودة المكبوت الطائفي في تونس

ليلة السبت الماضي قامت الجمهورية الإسلامية -بالتعاون مع حلفائها في العراق ولبنان وسوريا واليمن- بتوجيه ضربات صاروخية ضد الكيان، وهي واقعة أظهرت حجم الحماية الغربية والعربية للكيان، بحكم مشاركة كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والأردن وغيرها من الدول العربية "المعتدلة" في اعتراض تلك الهجمة والحد من أضرارها المادية والبشرية.

ويأتي هذا التصعيد الذي تجلى في مهاجمة إيران للكيان لأول مرة بصورة مباشرة للتعبير عن تغير في قواعد الاشتباك بينها وبين الكيان.

وبينما اعتبر قادة الكيان التحالف الإقليمي (أي مشاركة بعض الدول العربية) "نجاحا مبهرا يظهر تفوقه التكنولوجي والعسكري ومرونته الديبلوماسية"، حرصت إيران على تأكيد نجاحها في تحقيق الأهداف المرسومة لضربتها "المحدودة" التي جاءت لـ"إعادة الاعتبار للردع الإيراني" بالرد على هجوم الكيان على قنصليتها في دمشق ومقتل مسؤولين كبار في حرسها الثوري.

ورغم إجماع على نصرة "المقاومة " بصرف النظر عن المواقف الأيديولوجية المتباينة من قاطرتها "الإخوانية" (حماس والجهاد)، فإن دور "محور الممانعة" ظل محل سجال عمومي بين النخب والأوساط الشعبية على حد سواء منذ انطلاق "طوفان الأقصى".

فإيران وحزب الله وبعض الفصائل الشيعية قد شاركت في إفشال الثورة السورية وتحويلها إلى حرب طائفية، على الأقل بحكم وقوفها العسكري وراء النظام البعثي ذي النواة الصلبة العلوية.

ورغم مشاركة العديد من القوى الإقليمية السُّنية في هذا المآل الكارثي للثورة السلمية السورية، بل رغم مساهمة هذه القوى (محور الثورات المضادة وعرابي صفقة القرن، خاصة السعودية والإمارات) في تحويل سوريا إلى مكان للصراع الطائفي ووقوفها وراء تدمير بلدان الربيع العربي وإفشال الانتقال الديمقراطي في تونس، فإن ذلك كله لم يشفع لإيران وحلفائها في محور "المقاومة" ولم يمنع من عودة المكبوت الطائفي الذي لا يمكن اعتباره المحدد الأول للمواقف السياسية في تونس، وإن كان أحد محدداتها المركزية.

ما يُحدد الموقف من إيران -والشيعة عموما- في تونس ليس القضية الفلسطينية ولا المرجعية الأيديولوجية، بل الصراعات السياسية المحلية نظريا، كان من المفترض أن يساعد الالتقاء الموضوع بين جناحي الأمة في محور المقاومة على تخفيف الانقسامات والحد من تأثيراتها في المستوى المحلي بتونس، ولكنّ ذلك لم يحصل واقعيا.

فحماس والجهاد لم تنكرا يوما الدور الإيراني الأساسي في نصرة المقاومة الفلسطينية، على خلاف أغلب الأنظمة العربية المسارعة إلى التطبيع أو المساندة للكيان بصورة سرية منذ تأسيسه.

كما أنّ طوفان الأقصى قد أكدت أنّ "المحور الشيعي" هو الوحيد الذي انتصر للمقاومة ديبلوماسيا وعسكريا.

ولكنّ ذلك كله لم يكن كافيا -من جهة أولى- لفصل هذا الموضوع عن باقي الصراعات الإقليمية (خاصة المسألة السورية)، كما لم يكن كافيا -من جهة ثانية- في "التطبيع" مع المكوّن الشيعي في المقاومة بقيادة إيران.

وقد زاد في تقوية هذا المنطق أنّ محصول هذه الضربة كان شبه صفري من جهة الخسائر البشرية والمادية في الكيان، فضلا عن اعتراف إيران ذاتها بأنها قد أبلغت الولايات المتحدة وبعض الدول في المنطقة بموعد ضربتها العسكرية.

ورغم أن الموقف المهاجم لإيران يتأسس على السردية "الإسرائيلية" بصورة كاملة (ويتقاطع موضوعيا مع سردية محور التطبيع)، ورغم وجود قرائن قوية تشكك في مصداقية تلك السردية (منها فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي للمتطرف بن غفير يعترف فيه بوجود خسائر عسكرية وبشرية)، فإنّ تعبير "المسرحية الإيرانية" قد أصبح من أكثر التعابير المتداولة في السجال العمومي في تونس، سواء من جهة القائلين بوجود تلك "المسرحية" أو من جهة المفنّدين لها.

ونحن نعتبر أن كلمة "المسرحية" لم تولد بعد الضربة، بل هي موجودة منذ أن تحرك حلفاء إيران في المنطقة لدعم المقاومة.

فإذا كان هذا التحرك قد سرّ القوى "الحداثية" التونسية التي استطاعت أن تجد مبررا سياسيا لنصرة المقاومة "الإخوانية" في غزة (فالمقاومة ليست شأنا "إخوانيا" صرفا)، فإن خصوم النظام السوري -وأصحاب المرجعيات الدينية ذات الجذر "الطائفي"- قد اعتبروا أن ما يقوم به حلفاء إيران هو مجرد خدمة لهذه الدولة (أو مجرد تقوية لمواقع تلك القوى الشيعية في صراعاتها الداخلية) ولا علاقة له بنصرة القضية الفلسطينية بصورة مبدئية.

إن ما يُحدد الموقف من إيران -والشيعة عموما- في تونس ليس القضية الفلسطينية ولا المرجعية الأيديولوجية، بل الصراعات السياسية المحلية.

فـ"الحداثي" التونسي لا يجد حرجا في الانتصار لمحور المقاومة بقيادة إيران التي هي في أدبياته "دولة دينية رجعية"، مثلما لا يجد حرجا في التحالف مع "محور الثورات المضادة" وعرّابي صفقة القرن ودعاة التطبيع بقيادة "الرجعية" السعودية الوهابية والإماراتية.

وهي وقائع لا يعنيه تناقضها مع مرجعياته الأيديولوجية من جهة، وتعارضها مع ما يؤسس موقفه الرافض للاعتراف بـ"الإسلام السياسي" في تونس واعتباره مكوّنا من مكوّنات الحقل السياسي القانوني، من جهة أخرى.

أما خصوم إيران فلا يعنيهم اعتراف المقاومة الإسلامية الفلسطينية بالدور الإيراني في نصرتها، ولا تعنيهم أيضا حدة الصراع بين إيران وحلفائها وبين الكيان.

فكل ذلك ليس إلا "مسرحية" يتقاسم فيها "أعداء الأمة" (أي أعداء أهل السنة والجماعة) الأدوار برعاية أمريكية.

فإذا كانت أمريكا في سردية الثورة الإيرانية هي "الشيطان الأكبر"، فإن خصوم إيران يشككون في صدق هذه السردية ويعتبرونها مجرد سردية دعائية تخفي حقيقة التحالف الاستراتيجي بين الكيان وإيران في خدمة المشروع الأمريكي في المنطقة.

ختاما، فإننا نعتبر أن الانتصار لمحور "الممانعة" أو معاداته هو جزء من آليات الصراع الداخلي، أو لنقل هو امتداد خارجي للتموقعات المحلية وما يحكمها من رهانات مادية ورمزية.

فمن جهة خصوم محور "الممانعة"، فإنّ التشكيك في طبيعة الدور الإيراني هو أمر يحكمه معطيان؛ أما المعطى الأول فهو معطى مخيالي أو تاريخي أو طائفي يرتد إلى الماضي البعيد، وهو لا يتمظهر في الأغلب بصورة صريحة إلا في بعض السجالات "العامية" وإن كان لا يغيب عن سجالات بعض ممثلي "الثقافة العالمة"، أما المعطى الثاني فهو معطى آني أو راهني ويتمثل في وجود قرائن قوية عن وجود علاقة بين القوى "الحداثية" التونسية وإيران، وهي قرائن قد تشمل النظام الحاكم في تونس وليس فقط المعارضة "الحداثية" التي تسنده أو تقف على هامشه.

المسألة الطائفية هي مكوّن من تلك المكوّنات، فمثلما عجز التونسيون عن بناء سردية سياسية جامعة تدير الانتقال الديمقراطي، فإنهم قد فشلوا في "تحييد" المسألة الطائفية التي أصبحت أداة من أدوات الصراع السياسي بين "القوى الحداثية" وبين خصومهم من الإسلاميين كما بيّنا أعلاه، بل أصبحت أداة لتجذير الانقسام على أساس "الهوية" أما من جهة أنصار السردية الإيرانية والمثمنين لدورها في دعم المقاومة، فإنهم هم أيضا محكومون بخطاب سياسي يقوم على قاعدتين: أولا إضعاف الإسلام السياسي السني (الإخواني خاصة، والتشكيك في أسسه باستدعاء نقيضه الموضوعي والتاريخي وتوظيفه في الصراع ضد حركة النهضة، ثانيا تعويم دور المقاومة الفلسطينية في محور "الممانعة" ومنع حركة النهضة من استثمار ذلك الدور في تقوية وضعها الداخلي أو "تبييض" صورتها لدى الرأي العام؛ بعد سنوات من الشيطنة النسقية للحركات الإخوانية والدعوة أحيانا إلى تصنيفها "حركات إرهابية".

رغم أن كل مكونات الطيف السياسي التونسي تتحرك نظريا -بل دستوريا- تحت سقف الدولة الوطنية أو الدولة-الأمة، فإن السجال العمومي حول القضية الفلسطينية -وباقي القضايا الإقليمية في المجال العربي الإسلامي- يؤكد انتماء تونس لفضاء أكبر مما فرضه التحديث الفوقي على أساس اللائكية الفرنسية، كما يؤكد استمرار بعض المكونات التراثية -ما قبل الحداثية- في توجيه السجال العمومي التونسي وتحديد سقفه من جهة المفردات والرهانات والتحالفات المحلية والإقليمية.

ولا شك عندنا في أن المسألة الطائفية هي مكوّن من تلك المكوّنات، فمثلما عجز التونسيون عن بناء سردية سياسية جامعة تدير الانتقال الديمقراطي، فإنهم قد فشلوا في "تحييد" المسألة الطائفية التي أصبحت أداة من أدوات الصراع السياسي بين "القوى الحداثية" وبين خصومهم من الإسلاميين كما بيّنا أعلاه، بل أصبحت أداة لتجذير الانقسام على أساس "الهوية" (الحقيقية أو المتخيلة).

وهو أمر محصوله تزييف الوعي الجماعي وحرفه عن القضايا المتعلقة بمشروع التحرير والعلاقة بالإمبريالية في مرحلتها الحالية (أي الإمبريالية المتصهينة)، وبأذرعها المحلية في منظومة الاستعمار الداخلي وواجهاتها السياسية والأيديولوجية المختلفة قبل الثورة وبعدها (سواء كانت في السلطة أو في المعارضة الجذرية أو في الموالاة النقدية).

منوعات      |      المصدر: عربي 21    (منذ: 2 أسابيع | 2 قراءة)
.