السريري: صوت أهل الدين منخفض.. و"الفكر الفوضوي" يقود إلى الاضطراب

في لقاء بمدرسة تنكرت العتيقة بإفران الأطلس الصغير، قال الفقيه المغربي مولود السريري جوابا على سؤال “هل الفقهاء المتأخرون مجترون لكلام من سبقهم فقط؟”، إنه “إذا جاء مؤلف وعامل ونظر في المادة العلمية، بعدما وُجدت وانتصبت وبذل جهد الاطلاع عليها، ثم كتب كتابا فوضع فيه هذه المادة، لا يسمى إلا جامعا لمادة علمية، جاء ليثبتها ويضبطها، وليس موجدا لها”؛ فـ”واضع أصول الشريعة الله، والقرآن والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب والاستحسان وسد الذريعة أصول ترجع إلى القرآن.

وأدوات قراءة هذه الأصول، شرطها أن تكون منقولة كما نقلت السنة النبوية.

” وتابع شارحا: “الجامع لن يجمع المادة حتى تمر في المختبرات التي تحقق لها شرعية الكلام، ومن سبق لهم فضل جمع المادة وترتيبها، مثل الشافعي ومالك وأبي حنيفة، هذا لا يعني أنهم انفردوا بخصوصية سوى خصوصية الجمع.

ومن السخافة قول غير ذلك؛ فمن يقول هؤلاء ما يزالون يعيشون في عقل الشافعي، مثل من يقول لا يزال هؤلاء يعيشون في عقل سيبويه أو أبي الأسود الدؤلي جامعِ قواعد النحو.

” وواصل: “الجامع وجد المادة فاطلع عليها، فلمّها في كلمات، فوضعها في أوراق (…) ولو لم يوجد الجامعون ستوجد المادة جُمعت أم لم تُجمع”، علما أنه “يحرم العمل بالدليل دون الاطلاع على أدلته الشرعية”، وعلى الفقيه “النظر في الأدلة المثبتة، والنظر أكثر منها في الأدلة المعارضة، ثم النظر الكلي، وتقرير مَن له الحق، قبل استعمال الأدلة في الأحكام الشرعية، وإن لم تستطع وبدا لك أنه ليس بدليل لا تستدل به”؛ أي إن “عقلك الذي تستعمله لا عقل الشافعي، أو غيره، وكذلك الأمر في سد الذريعة.

” #div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} وزاد: “لم يترك أتباع مالك مسألة له إلا ناقشوها وراجعوها وزاحموها، حتى في الأصول”، ثم استرسل متسائلا: “ماذا ترك الشافعية للشافعي في مذهبه لم يناقشوه ولم يناقضوه ولم يعارضوه؟ حتى في مباحث الأصول؛ جمهورهم في جهة والشافعي في جهة في مسائل معروفة، واستمروا على ذلك لأنه الأقوى والأجدر بالاعتبار، والحنفية مثل ذلك في أصولهم، وفي المنهج والنظر.

” وجدّد السريري التأكيد على أن “من يقول إن في المذاهب اجترار، لا يعلم شيئا”، بل يذهب الفقهاء إلى “العين التي يستقي منها إمامهم، وينظرون لسلامة سقيه ومنهجه، وفي هذا نوع من المحاكمة والتصحيح، فإن وجدوه أخذ الأمور على وجهها يقبلون ذلك، وإن وجدوا أنه لم يأت بالأمر على وجهه يعارضونه، ويقولون إن الحق في جهة أخرى”، وبالتالي فإن الناس يتبعون “العالم المجتهد لأنهم يوافقونه، لا لأنهم يقلدونه أو يعبدونه”.

وفي مداخلة أخرى خلال الحصة السابعة بعد السبعمائة من “شرح مختصر خليل”، ومداخلات أخرى على القناة الرسمية لمدرسة تنكرت العتيقة، قدّم الفقيه مولود السريري وجهة نظره في عدد من المسائل المطروحة للنقاش في ساحة المملكة خلال الشهور الأخيرة، على هامش تعديل “مدونة الأسرة”.

وذكر السريري أن “النظام الشرعي ليس نظاما لترتيب الحياة فقط، وهو الجانب الذي ينظر فيه العلماني والذي ينظر إلى الدين نظرة بشرية، وإنما فيه بعد تعبدي، لا نظم الحياة والعلاقات بين الناس فقط، بل يجب أن يعتقد المتدين في هذا أنه يتقرّب به إلى الله.

” وتابع: “صوت أهل الدين منخفض جدا في إظهار حقوقهم الوجودية والعقدية والعلمية، إنما انكفؤوا على نفسهم واشتغلوا ببعض المسائل البسيطة التي يشارك فيها العامي الفقيه”، مع إهمال “التعمق في الدين بإظهار الحقوق الوجودية لهذا المتدين التي هي من تمام ماهيته؛ ومن ذلك اعتقاده أن هذا الشيء لا يمكن أن ينظَّم إلا بهذه الطريقة، لأنها مجرورة من عين الإسلام، من عين الشريعة، ولذلك يعتبر ذلك مقدسا، تعبديا، يريد به أن يتقرب إلى الله، يظن أنه إذا نشره عبادة، وفي الوقت الذي يحارَب فيه هذا الأمر ينشره بين الناس ويرفع عقيرته به”.

وزاد أن المتدين ينظر في النظام الشرعي وأحكامه بأمرين، هما: “نظم الحياة على سلك تتحقق به مصالح الدنيا وتدفع به مفاسدها، وأنه أمر تعبدي (…) من باب تنزيل حكم الله في الأرض وهذا أعظم من المصلحة التي تتحقق لفرد أو جماعة”.

وفي مداخلة حديثة أخرى، قال مولود السريري إن “كثيرا من العلمانيين والحداثيين والملحدين عندما يعللون دفاع المسلمين عن دينهم وتشبثهم بهم يعللونه بعلل تافهة، تدل على أنهم لا يفهمون أهل الإيمان؛ وأول ما يجهلونه في شأنهم أنهم لا يعلمون أن ما يتلقونه من اللذات في المتروكات المحرمات، أهم من اللذة التي يدعو لها الجُهّال.

” واسترسل قائلا: “هم غير محرومين من اللذات”، وعكس الظنّ بأن “تشبث الناس بأحكام ربهم فقط لأنهم ولدوا على ذلك وتربوا عليه”، إلا أن “الفعل الديني لم يدرس على الوجه الذي يتبين به لهؤلاء الآثار التي يتركها في نفوس أهله.

” وواصل: “من يدعون إلى فتح مجال الزنا، بترجمة العلاقات الرضائية، يجدون المسلم لا يقبل ذلك، يدفع هذا الأمر، ويكرهه ويبغضه.

أليس المسلمُ فيه الشهوة؟ أليس هذا الذي يُفتَح له باب الشهوة؟ هو لا يقبل ذلك لأن الذي يأخذه في العفة من اللذائذ والنعم لا يمكن له أن يتركه، ودفاعه هنا ليس كما يتوهم البعض جهلا وعدم فهم، فالشهوة مركوزة في طبيعة الإنسان، لكن يكرهها ويبغضها؛ لأنكَ ستزيل عنه اللذة العظمى وهي اللذة الروحية”.

ويرى السريري أن “ما يدعو إليه المنفلتون من ربقة النظر العقلي والشرعي، من العلاقات الرضائية؛ لو كان من يحاربونهم في هذا الباب منافقين، ويريدون الوصول إلى تعدد الزوجات، فهذا أسهل طريق؛ سيسكتون ويقولون دعوهم يمررون ذلك وسنصل إلى شهوتنا، وسيتزوّج الإنسان بالفاتحة، ويطلّق، وإذا سئل قيل اسألوها كل شيء عن تراض.

لكن هؤلاء لهم مبادئ ودين وشيء يخشون عليه وهو نزول غضب الله عليهم، ونزع المنافع واللذات التي تطرأ عليهم بدينهم”، فهناك “فرق شاسع في عيشهم، في أرواحهم ونفوسهم، بين هؤلاء وهؤلاء، ويريدون دفع هذا الشر لحفظ نعمة الإيمان والدين”.

ثم استرسل قائلا: “الكأس إذا ملئ بالماء لا يمكن أن يُملأ بغيره، حتى يفرغ.

وهكذا الحكم الشرعي إذا كان في محل لا يمكن أن يرفعه فيه أحد، وهذا تنبيه للجهال الذين يظنون أنهم إذا سنوا القوانين في محل الحكم الشرعي فإن الحكم الشرعي سيتغير أو يتبدل، وهؤلاء لا يعرفون الوجود الشرعي وعالم الحقيقة الشرعية.

” وزاد معقّبا على قضايا مطروحة في النقاش العمومي بالمغرب: “إذا قضي بأن التعصيب لن يقع، كما يحلم به بعض الناس، فلا يمكن إلا أن يبقى، لأن هذا الأمر ليس وضعيا بشريا حتى يرفعه البشر.

الوجود التشريعي لا يؤثر فيه إلا الله تعالى.

لأنه ينزل منزلة الشيء الحسي، فلو قُدّر أن الإنسان مات، لا يمكن أبدا أن يرفع فيه هذا الموت.

” وأضاف: “الفقيه عندما يثبت في هذه الأحوال يصفه البعض بالجمود، جمود العقل وعدم تحركه؛ لأن طرق المضي في الحسيات أبدية دائمة، لا يمكن أن يأتي إنسان ويقول إن مئات السنين ونحن نذهب في هذا الطريق يجب أن نبدله، هذا نوع من الحمق، هذه حقائق ثابتة في الخلق وفي الوجود التشريعي”، ثم أردف قائلا: “مقارنة هذا بالأمور الحسية تأتي بالسخرية؛ كمن يقول لا يجوز لنا أن نشرب الماء الذي شربناه آلاف السنين، وعلينا التخلص منه، وأن نخترع مشروبا آخر”؛ فـ”هذا الشيء هو الذي يصلح لهذا الأمر، وهذا ما ينظر إليه الفقيه في الحقائق الدينية، أشياء متعالية فوق الزمان والمكان، لأن الإنسان وُجد له الماء لإزالة عطشه، ومتى نزع منه هلك”.

وقدّر السريري أن “ما يروج حول جمود الدين والثقافة والوجود، جهل بالوجود التشريعي، وعدم علم بحقيقته”، وأن الصدام الذي لا يفهمه الكثيرون، هو أن هناك من “يأتي إلى أمر ديني ويتكلم فيه وهو لا علاقة له بفهم هذا الشيء، وإنما يشرّع بالنفس، باتباع الأمزجة والتخبط في الإدراك.

(…) كل ما يروج الآن مما يسميه بعض الجهال بالاجتهاد كلام فارغ ليس له أي قيمة علمية، ويجب أن يقوم بكَ الوجود الشرعي أولا، ثم ترتقي في مطالب العلوم الشرعية إلى أعلى مراتبها، لكي ترجع حينئذ من المبادئ إلى المطالب ومن المطالب إلى المبادئ لاستنباط الحكم الشرعي.

لا أن يجلس عامي لا يكاد يفرق بين السبب والشرط، ويلفظ الكلام الفارغ: نريد أن نجتهد في الدين.

فهو لا يفهم حقيقة الدين، ولم يزر يوما الوجود التشريعي وعالم الحقيقة الشرعية، ولم يخطر بباله يوما”.

وحول الدين الذي “لا يحل مشاكل الناس”، قال مولود السريري إن “التهذيب هو الأصل في الدين، أي إن الإسلام يخدم الناس من جهة تأديب غرائزهم وعقولهم وطبائعهم وتربيتهم، لكن يراد للدين أن يشرّع للناس بحسب رغباتهم وأهوائهم، ويسمى الإنسان غيرُ المهذّب وغير المربّى وغير المزكّى صاحب مشاكل يجب أن يحلها الدين”.

وتابع: “يراد للدين أن لا يتعلق بصنع الإنسان، بل أن يساير أهواءَه.

ويُقال: على الإسلام أن يحل مشاكل الناس”، لكن “يجب أن يكونوا صنيعة الإسلام ليحلّ مشاكلهم، فالإسلام يحلّ مشاكل من اهتدى بشريعته، لا أن يطلق للناس جميع ضروب الفساد ويقال يجب على الإسلام حل مشاكلهم”، فالدين لا يؤتى به لـ”يحلّ مشاكل الأسد فهو يحب أن يأكل لحوم الناس”.

وحدّد السريري الإشكال في “من يريدون شريعة توافق هوى الناس، لا أن يُخلَق هوى يَتَّبِع الشريعة”، وحله أنه “يجب أن يعاد تكوين الناس على طريقة سليمة؛ أما الاكتفاء بقول إن هذه طبيعة في النفوس؛ فـ”من يقتل الناس أليس طبيعة في النفوس؟ والمجرم الذي يفتك بالناس أليست هذه غريزة قائمة؟ فلماذا لا تشرّعون له الحلول ويقال يجوز له ذلك”، ثم علّق بـ”لقد اختلت الموازين”، قبل أن يختم قائلا: ما يوجد الآن “فوضى”، لا فكر منضبط؛ “فحتى الفكر الإلحادي غير موجود (في النقاش المجتمعي).

بل يوجد فكر فوضوي بلا مرجعية ولا مستند ولا أساس، والمصير إلى الفوضى والاضطراب”.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 2 أسابيع | 5 قراءة)
.