مذكرات غير شخصية .. سيرة عبد الله كنون تنفتح على التاريخ وقيم المعرفة

عبد الله كنّون بقلم عبد الله كنّون 1 تنطوي كتابة السيرة الذاتية -عموما- على تمثّل قيم أدبية وفكرية تحوّل التاريخ الذاتي إلى أفق للكتابة يتحدى مجال البوح والاعتراف، إلى وعي يسعى إلى فهم العالم المحيط بحياة الكاتب.

لذلك، تنفتح الكتابة عن الذات في بعض الأحيان على أنواع أدبية مجاورة مثل الرحلة والترسل واليوميات والمذكرات وفق تعاقد تقيمه مع القارئ بهدف إعادة ابتكار الأنا وتحرير القول من كل قيد قد تفرضه مواضعات المجتمع أو اللغة وأشكال التعبير.

هكذا، نجد أنفسنا أمام كتابة عن الذات تدل على أن الهوية النصية ليست معطى وسابقا عن الكتابة، وإنما هي نتيجة لبحث الكينونة عن معنى وجودها في الزمان والمكان بين الماضي والحاضر.

وهذا ما يجعل للسيرة وضعا خاصا يميزها باعتبارها نوعا أدبيا تفرزه أشكال من الكتابة: السيرة الروائية – السيرة الذهنية – السيرة الذاتية – نصوص غفل وغير مجنّسة.

إذا كانت السيرة حسب أحد تعريفاتها المتداولة هي: نثر استعادي ينجزه شخص واقعي عن وجوده الفعلي، كما يلقي الضوء على حياته الفردية وبالخصوص على تاريخ شخصيته، فإن هويتها النصية تكون مقيدة بوجوب تطابق بين محافل المؤلف والسارد والشخصية الرئيسية وقد أبانت نظرية الأنواع الأدبية طبيعة السمات الأساسية المميزة لسرد السيرة الذاتية في تعلّقها بمختلف التجارب المعيشة لكاتبها، وهو ينسج خيطا مشتركا وناظما لها في صلتها الوثيقة بالمجتمع والثقافة؛ قصص الحياة في كل سيرة ذاتية تذكر واستدعاء لزمن انقضى وإعادته إلى زمن حاضر، ذلك أن حياة المرء هي منتخبات لحياة جماعية تعيد السيرة الذاتية تشكيل هويتها ثقافيا لأنها تعبير عن رؤية صاحبها للعالم، معنى هذا أن الذاتية ليست فردانية معزولة، بل إنها تمثل لوعي جماعي تغدو معه كل سيرة ذاتية سيرة غيرية تستمدّ صدقيتها من موضوعية الوقائع الاجتماعية والتاريخية.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} 2 يبدو من الصعب -على الأقل في هذا الورقات المختصرة- الإلمام بمجمل خصوصيات المسار الثقافي للعلامة عبد الله كنون، خاصة حين يتعلق الأمر بتركيز التفكير حول أسئلة تتجاوز في أساسها مسار مفكر مفرد وتلحقه -من زاوية التصوّر- بسياق تاريخي واجتماعي.

بهذا المعنى لا تعتبر الإنتاجات الثقافية والفكرية كيانات مستقلة عن تجارب أصحابها وآفاقها الاجتماعية والتاريخية التي تنتسب إليها.

في خاتمة حوار فكري وسيري مع مجلة الكرمل يناير 1984 وردّا على جواب هل تكتب مذكرات؛ قال عبد الله كنون: “نعم، وهذه مذكرات لا تزال تحت القلم عنوانها ‘مذكرات غير شخصية’، أسجل فيها بعض الأشياء التي يغفلها الناس، أو ربما يحرقونها، وفيها ما يتعلق بالطفولة، ولا أذكرها لأنها تتعلق بي، بل أذكرها لأنها تصوّر كيف كان المجتمع المغربي.

وفيها ما يتعلق بالدراسة، والمقصود هو كيف كانت الدراسة.

أتحدث فيها أيضا عن الحياة والمسؤولية والعمل والعقبات التي يلاقيها الإنسان وصدامه مع محيطه.

.

هناك النشاط الثقافي والسياسي والاجتماعي، وعمل بعض الأفراد والاتصالات التي كانت لي بهم.

هي مذكرات قريبة جدا مني، ولكنها أيضا مرتبطة بما عاشه المغرب الحديث، من خلال عاداته، وطموحاته، ولذلك فهي غير شخصية، إنها تذكُّر لزمن ولأهله”.

يفصح عبد الله كنون في مستهل هذه المذكرات غير الشخصية وقد صدرت مطلع 2020 أنه لم يفكر يوما في كتابة مذكرات شخصية عن حياته، لسبب بسيط وهو أنه لم يعتبر أن حياته تستحق التدوين بالتفصيل الذي تسْتدعيه كتابة المذكرات إلاّ إذا كان سيثقل حواشيها بالتَّوافِه التي لا قيمة لها؛ فضلا عن ذلك، يوسّع كنون من التعليل الذي قدمه على عدم إقباله على كتابة المذكرات الشخصية، الابتعاد عن التلفيقات والافتراضات التي يعبر عنها التحليل النفسي من أحكام هدفها تحطيم الشخصية الإنسانية للمترجم وتأويل أحداث بسيطة من الحياة بإعطائها أبعادا لا حدود لها؛ أو أن يعبّر صديق ذكره المترجم ويدّعي أن ما ذكره من كلام فيه غلّو ولا يمت للواقع بصلة.

بهذا التصوّر، لم تكن مذكرات كنون شخصية، بل كانت غير شخصية، ولم يقصُرها فقط على حقائق الذات، بل جعلها منفتحة أيضا على حقائق التاريخ، وإن كانت الحقائق الأولى قريبة من الأوهام، فإن الثانية ليست أوهاما، وإنما وقائع تحدث فعلا فتنقل وتُروى بصدق وأمانة.

بهذا المنطق كتبَ عبد الله كنون مذكراته في صلتها بالتاريخ العامّ، لأنه كان على وعي بأن ما سيكتبه يعود لسنوات بعيدة، إنها تسْجيل لأحاديثه وعروضه ومشاهداته التي كان يفضي بها لإخوانه وأصدقائه، فألحوا عليه أن يكتبها ويخرجها من دائرة الحديث الخاص إلى العام.

3 ستشكّل هذه التجربة، إذن، حافزا لدى عبد الله كنون لكتابة المذكرات جاعلا من الأبعاد الوجدانية والإنسانية الموضوع المركزي في النص، بحيث تغدو فضاءات الكتابة -بما تعلنه بغير قليل من المرجعية الواقعية والمباشرة- إحالة إما على لحظات معلومة من التاريخ الخاص والعام في علاقتهما بما عاشه المغرب من أحداث خلال فترة ما قبل الاستقلال، أو خلال مرحلة الكفاح الوطني، وما تلاها من سنوات التحصيل والتعلّم.

لم يكن عبد الله كنون يتجاوز عمره الأربع سنوات لما غادر مع أسرته مدينة فاس وحين أقدمت سلطات الحماية على إدخال إصلاحات على مناهج التعليم بالقرويين، فكان عزم الكثير من علمائها مغادرة المدينة ومنهم والد كنون الذي انتقل رفقة عائلته إلى طنجة ومنها كانت النّية العبور إلى المشرق لوْلا قيام الحرب العالمية الأولى التي كانت سببا للمقام بطنجة، وبها نشأ عبد الله كنون.

وتلقى تعليمه الأولي، فمن أصداء فاس ووداعِها، ومن النشأة بطنجة والمُقام فيها، ومن سنوات التحصيل الأولى إلى إنشاء المدرسة الإسلامية الحرة، من حفظ القرآن والتفقّه في الحديث، والاطلاع على أمهات كتب التراث ومواكبة ما أنتجته حركة النهضة الأدبية بالمشرق.

كانت الدراسة الأولى منصبة على العناصر الضرورية للتثقيف والاكتساب اللغوي، وكانت تدور التشريع الإسلامي وعلومه، فضلا عن الترجمات الأدبية الغربية الآتية من بلاد الشام، وتعلّم اللغات خاصة الفرنسية والإسبانية من زملائه من ذوي التعليم العصري؛ هكذا، اكتسب عبد الله كنون ثقافة متنوعة تبرزها المذكرات حين تحصرها في مرحلتين أساسيتين: المرحلة التي كان يحب فيها الذهاب إلى فاس ليختبر معارفه، وليحضر دروس العلماء الكبار الذين كان على معرفة مسبقة بهم، ويدوم ذلك مدة أسبوع أو أسبوعين.

يذكر عبد الله كنون أنه ذهب مرة إلى فاس ولم يجد الدروس منتظمة، هذا العالم لا يحضر اليوم، وذاك لم يأت البارحة؛ تنظيم ضعيف، فقرر هو وابن عمه الصعود في عقبة الطالعة، فوجدا مولاي عبد الله الفضيلي، وهو من العلماء المعروفين، فسلما عليه، سأله العالم: أتيت لتدرس هنا؟ فقال له: أية دراسة عندكم هنا بفاس؟ وأضاف: هل تدرسون الحديث؟ فذكر له العلامة الفضيلي بأن الحديث لا يدرس بفاس؛ وكان على عكس مدينة طنجة، البخاري، ومسلم، الموطأ، ومنذ ذلك الحين نزع عبد الله كنون من باله فكرة العودة إلى فاس.

وأما المرحلة الثانية فكانت مطالعة الكتب والصحف والمجلات الوافدة من المشرق، فقد كان يقرأ في اليوم الواحد كتابين من الحجم المتوسط، من هنا كان التكوين الثقافي العام والانفتاح على المعارف والآداب.

لحظة فارقة في حياة عبد الله كنون وصفها في أكثر من موضع في مذكراته حين انتقل رفقة عائلته من فاس إلى طنجة، وعلى الرغم من فقدان الكثير من وسائل الراحة وانقطاع الصلة بالأحباب والمعارف والأقارب، إلا أن قرار والده الاستقرار بطنجة كان محفوفا بالارتياح للوضعية التي كانت عليها طنجة من الاستقلال وعدم شمول الحماية لها لا الفرنسية ولا الإسبانية، ولما كان يدبّر لها من قيام نظام حماية دولي بها، وقد تأخرت إقامة هذا النظام لما يزيد عن العشر سنوات، وحتى حين قام النظام لم يكن لأي دولة من دول الحماية نفوذ فعلي على المواطنين؛ تأقلم والد عبد الله كنون مع هذه البيئة الجديدة، واستحدث صلات طيبة مع أعيان طنجة، فضلا عما كان يحظى به من احترام الولاة ومحبة الناس.

4 يمنح عبد الله كنون في هذه المذكرات لتجربته في كتابة القصة أهمية لافتة للنظر: “قلت عن تجربتي في كتابة القصة: إنني لم أفكر قط في أن أكون قـاصًا، وأن ما كتبته من قصص قليلة كان بالنظر إلى محتواه يفرض أسلوب القصة، فلا تصح كتابته بغيرها.

ولذلك اعتبرت قصصي من باب المَقالات الأدبية، فنشرتها في مجموعاتي الأدبية والنقدية” (ص 171)؛ وهذا يعني أن عبد الله كنون يبذر في مقالاته الأدبية والفكرية من تجاربه الشخصية والحياتية العديد من الآراء الذاتية مصدرها خبرة واسعة من معاشرته للكتب وتجارب العلاقات والصداقات، من تلك الكتب الأدبية والفكرية التي تتوفر على ملامح سيرية أذكر خاصة: “خل وبقل، والتعاشيب وواحة الفكر”.

يتميّز خيارُ الكتابة عند عبد الله كنون في مذكرات غير شخصية بتداخل السرد الذاتي بالسرد الاستذكاري، واستيحاء تحوّلات المكان بأحداثه التاريخية والاجتماعية أثناء مرحلة المقاومة والتحرير، ونشوء النهضة في السياسة والفكر.

بهذا المعنى: – يتخذ عبد الله كنون في مذكراته من الماضي وأحداثه ميثاقا للحديث عن: الطفولة والعائلة والتّعلّم.

– الكتابة عن الذات لا تُعنى في هذه المذكرات بمراحل التكوّن، بل تهتمّ أيضا بأسئلة الفكر والثقافة وقيم المعرفة.

لعل أهم ميزة لكتابة السيرة عند عبد الله كنون في مذكراته تكمن في انفتاح التجربة الذاتية على الحدث الاجتماعي والسياسي والثقافي العام، ولذلك تراه يكتب سيرة غيرية أو سيرة مكان، وتراه أحيانا يحلل الفكرة الأدبية والموقف الإيديولوجي.

5 لم أجد أبلغ ما أختم به هذا الرأي إلا قوله في كتابه “واحة الفكر”، تأملوا واستمتعوا بنبوغ هذا العالم الجليل: “نفرّ من صخب الحياة وضوضائها إلى صمت الطبيعة الحكيم وسكونها البليغ… فإذا أجهدنا الفكر وأضجرنا النظر وسطا الخمود على نشاطنا العقلي فإننا نفر إلى هذا الأدب فنحسّ الجمام والمتعة والقوة! نبخس الأدب إذا اعتبرناه ملهاة نقتل بها الوقت، وضربا من ضروب الكمال في حياتنا العقلية على حين أنه روح الثقافة وجوهر المعرفة”.

هكذا… تكلم عبد الله كنون؛ وبهذا نطقتْ واحةُ فكره.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 3 أسابيع | 3 قراءة)
.