مفتي رواندا: المسلمون يشاركون بفاعلية في تنمية الدولة

كيغالي- ما إن تتجول في شوارع كيغالي أو خارجها وصولا إلى إقليم الشمال، وبتناغم مع خضرة المناظر من حولك، تطالعك مآذن خضراء تعلو مساجد تتفاوت مساحاتها بين المصلى الصغير إلى المتوسط، بينما يتربع في طرفي كيغالي الجامع الكبير بالإضافة إلى مقر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، حيث مقر إدارة الإفتاء والدعوة.

توجهنا لمقابلة مفتي سالم هيتيمانا، وعند مدخل البوابة الخارجية للمجلس، يستقبلك صوت أطفال يرددون آيات من الذكر الحكيم، في موعدهم اليومي لتلقي دورس تلاوة القرآن الكريم.

رحب بنا فضيلة المفتي وصادف موعدنا معه وصول وفد من مسلمي المحافظات الرواندية للقائه.

وفي ما يلي نص الحوار: وفد من مسلمي المحافظات الرواندية في زيارة لمفتي البلاد سالم هيتيمانا (الجزيرة) متى وصل الإسلام إلى رواندا؟ هناك روايتان، الأولى تقول إن الإسلام دخل إلى رواندا عام 1896 عن طريق عمال مساعدين استقدمهم المستعمرون الألمان عندما دخلوا عبر ، واجتاحوا رواندا.

كان معهم كوادر من تقنيين ومهندسين من المسلمين.

والبعض يعتبر أن دخول هؤلاء هو أول دخول للإسلام إلى رواندا.

وتقول الرواية الثانية إن الإسلام دخل رواندا عام 1890 تقريبا عبر التجار العرب الذين كانوا يترددون على هذه المنطقة، وخاصة غربي تنزانيا، وكانوا يصلون لأقصى في منطقة كاسونغو.

وهؤلاء التجار كانت لديهم صلات واتصال مع الروانديين، وكانوا يبيعون الملابس والملح للروانديين ويزودونهم بالسلاح وفق البعض، ويشترون منهم العاج.

لكن كانت العلاقات طيبة بين الطرفين، وعندها بدأ الإسلام بالانتشار بين الروانديين، وبدؤوا في دخول الإسلام وبناء المساجد الصغيرة.

والمحقق أن دخول الإسلام في ذاك الوقت سبق دخول المسيحية بنحو 10 سنوات.

وغالبية التجار كانوا عربا من على الأكثر، وفي تنزانيا على سبيل المثال نجد عربا من أصول يمنية وعُمانية.

متى بدأ الاهتمام بدراسة الإسلام من شريعة وفقه؟ وهل لقيتم تعاونا من العالم العربي؟ منذ دخول الإسلام إلى البلاد، بدأ المسلمون يؤسسون مدارس قرآنية في المساجد وأماكن مختلفة.

وفي بداية سبعينيات القرن الماضي، بنى المسلمون أول مدرسة ضمت صفوفا حتى المرحلة المتوسطة، وبدأ الطلاب يدرسون فيها.

وهنا أذكر حادثة أن الملك السعودي الراحل عندما زار ، أشار له الرئيس الأوغندي الأسبق عيدي أمين آنذاك، بوجود مسلمين فيها، فأرسل مبعوثا إليها.

فلم يجد المبعوث من يترجم له، فاستعان بمترجمين من التي كانت ورواندا آنذاك تحت إدارة واحدة بلجيكية.

بوروندي كانت أكثر تطورا حينها، فأتى منها مترجم اسمه يحيى، وأنا نفسي تتلمذت على يده.

لذلك، رأى المسلمون حاجة لتأسيس المعهد الإسلامي للعلوم الشرعية، الذي سيدرّس أبناءهم اللغة العربية والمواد الشرعية والعلوم الإسلامية، كان ذلك عام 1974.

والمعهد لا يزال قائما، وهو الوحيد في رواندا لتخريج الدعاة، ونحن كلنا ممن لدينا معرفة باللغة العربية درسنا فيه.

درس للقرآن الكريم في المسجد الملحق بمركز المجلس الإسلامي الأعلى لمسلمي رواندا (الجزيرة) كم عدد الطلاب الآن في المعهد مقارنة مع فترة التأسيس؟ التحقت بالمعهد عام 1982، وكان عدد الطلاب لا يتجاوز 100.

أتيت طالبا من خارج العاصمة، ومن كان يأتي للانضمام للمعهد كان لزاما عليه توفير مكان للإقامة، وأذكر كيف كان المسلمون يفتحون أبواب منازلهم للطلبة الوافدين ليتلقوا العلوم الشرعية ويفيدوا إخوانهم من المسلمين.

الآن، لدينا قرابة 350 طالبا في المعهد، الذي تخرج منه أكثر من 5 آلاف، من بينهم قرابة 200 استمروا في تحصيل العلوم الشرعية في دول عربية وإسلامية.

بعد تخرجي من المعهد، واصلتُ دراستي في، ودرست أصول الفقه في كلية الشريعة 4 سنوات.

المسجد الملحق في مركز المجلس الإسلامي الأعلى لمسلمي رواندا (الجزيرة) كم تقدر نسبة المسلمين حاليا في رواندا؟ حاليا، يمكن تقدير أن نسبة المسلمين من عموم المواطنين في رواندا تصل لنحو 15%.

هناك من يقول إنها أقل ولا تتعدى 4% لكنها نسبة غير دقيقة.

كيف تصف التعامل على المستوى الرسمي مع المسلمين؟ أؤكد أن وضع المسلمين في رواندا أكثر من ممتاز، نجد احتضانا كاملا من الحكومة والمؤسسات، ولا نعاني من أي تمييز بحقنا.

نحن مواطنون كغيرنا، ولا نلمس أي نوع من أنواع التضييق أو غير ذلك.

ولوضع كلامي في سياق، لابد من تقديم فكرة عما كانت عليه الأمور قبل عام 1994.

أولا، النظرة إلى الروانديين المسلمين قبل ذلك التاريخ كانت تتسم بالتمييز الحاد، منذ الاستقلال عام 1962 حتى سنة 1994.

عانى الروانديون المسلمون في تلك الحقبة من تهميش واضطهاد، لم يكن يُسمح لهم بأي نشاط تنموي أو اقتصادي أو ثقافي.

كانوا محرومين من حرية العبادة، والبعض يلقي باللائمة في ذلك على فكرة أن المسلمين الأوائل في البلاد دخلوا مع المستعمرين.

ثم بدأت الأمور تزداد سوءا، مع عدم السماح للإسلام بالانتشار، إذ تم وضع غالبية المسلمين في مخيمات، تشبه مخيمات اللاجئين، رغم أنهم من أبناء البلاد.

ولتعميق التمييز ضدهم، كان يُطلق عليهم "سواحليين"، لأن المسلمين يتحدثون السواحلية، وهي لغة المسلمين الأوائل في رواندا، الذين أتوا من تنزانيا.

طُردوا من قراهم، ونُقلت غالبيتهم إلى تلك المخيمات التي بمجرد دخولها يسقط عن الفرد حق المواطنة، ولا يُسمح له بالدراسة أو تملك الأراضي.

باختصار، يصبح الشخص غير موجود.

استمررنا في هذه الحياة المريرة حتى عام 1994، مع دخول جبهة تحرير رواندا إلى البلاد لإنهاء الإبادة الجماعية ضد أقلية التوتسي.

منذ ذلك الوقت، تبدلت أمورنا جذريا.

وجدنا انفتاحا من المستويات الرسمية، وبدأ دمج المسلمين في الوظائف والمناصب العليا، وإلحاقهم بالمدارس والجامعات.

وقبل عام 1994، كان عدد المسلمين الذين تمكنوا من دخول الجامعات لا يتجاوز 6 أشخاص على مستوى الدولة، أما من وصلوا إلى المرحلة الثانوية، فلم يتجاوز عددهم 35 شخصا.

ثم تغيرت الأمور، فالآن لدينا الآلاف من الروانديين المسلمين من خريجي الجامعات، ومثلهم من خريجي الدراسات العليا الحائزين درجة الأستاذية (الدكتوراه).

وأكثر من ذلك، أول وزير داخلية بعد إنهاء الإبادة الجماعية كان مسلما، كان شيخي الذي تتلمذت على يده في مراحل دراسة العلوم الشرعية، عبد الكريم الهرري.

من دروس تعلم القرآن الكريم في المسجد الملحق بمركز المجلس الإسلامي الأعلى لمسلمي رواندا (الجزيرة) تقصد أن الشيخ نفسه تولى وزارة الداخلية؟ هكذا انتهت فجأة حقبة التمييز؟ صحيح، لم يكن أحد يتوقع أن مسلما يمكنه أن يصل لمنصب رفيع، فما بالك بتولي وزارة الداخلية.

بالنسبة للمجتمع المسلم في رواندا، كان الأمر مفاجئا على نحو غريب.

ثم بدأنا نلمس تغييرات على مستوى سريع وعالٍ، بحيث تجدون الآن المسلمين في وظائف رسمية حالهم كحال جميع المواطنين الروانديين.

تخيل، حتى الزي الذي أرتديه (طاقية) لم يكن مسموحا به في حال تمكنا من دخول أي دائرة رسمية لإجراء أي معاملة.

ففي طفولتي -على سبيل المثال- رافقتُ والدي إلى دائرة حكومية مرة، وقبل دخلونا، نزع الطاقية ووضعها في جيبه، وعندما سألته عن السبب، أجابني بأنه ليس مسموحا لنا أن نرتديها في الإدارات.

ما دور المسلمين خلال الإبادة الجماعية ضد التوتسي؟ دور الإسلام والمسلمين في رواندا ينطلق وينبثق من تعاليم الدين والشريعة.

عندما كانت الحكومة تخطط وتنظم الإبادة الجماعية ضد التوتسي، دعت حتى المسلمين إلى الانضمام إلى المليشيات والمشاركة في عمليات القتل.

تم الاجتماع حينها بمفتي البلاد الشيخ محمد موبيزا، لكن الموقف كان واضحا، أن الإسلام، ديننا الحنيف، لا يسمح لنا بتبني أفكار كهذه، لأن ديننا يفرض علينا احترام الإنسان وحرمة الحياة.

لذلك، دعا المفتي ممثلي المسلمين في جميع المحافظات وعقدوا اجتماعا عام 1992.

وحذر جميع الأئمة من خطورة ما يتم تدبيره لبلادنا.

وقال لهم إنه يتم التخطيط لفتنة ويجب أن نكون واعين وحذرين، وألا ننجر لها سواء بين أوساط المسلمين أو تجاه إخواننا المواطنين من قبائل وأديان أخرى.

وتمت صياغة رسالة بُعثت لرئاسة الجمهورية والحكومة، وتم تعميمها في رواندا، بأن المسلمين لن يقبلوا المشاركة في أي مجموعة مسلحة أو حزب أو أيديولوجيا تحرض على القتل بناء على الانتماء القبلي.

وذكّرت الرسالة إخواننا في الوطن، من مسلمين وغيرهم، بأن لا أحد يختار الانتماء للقبيلة أو العائلة، بل هو تدبير من الله عز وجل.

وكانت الهيئة العليا للمسلمين حينها واضحة، وطلبوا من جميع الأئمة عدم الانتماء للأحزاب، لأنها تسير على طريق منافية للشريعة، وحذروا من أن من يريد التمسك بانتماء حزبي من الأئمة أو الشيوخ، فعليه أن يترك منصبه في منظومة المسلمين.

كما ذكّرت الهيئة رئيس البلاد آنذاك بأن الشعب ينظر إليه على أنه أب له، وبأن عليه التصرف كذلك.

ونصت الرسالة على أن الرئيس إذا اختار الالتزام بهذه الضوابط، فسيقف المسلمون في صفه، وإذا اختار مخالفة رؤية المجتمع المسلم للمواطنة، فسيواجهونه.

وعندما بدأت المذبحة، أظهر المسلمون درجة عالية من الوعي، واستمر الأئمة في توعية المسلمين بخطورة ما يجري التحضير له، فقرر المسلمون حماية الناس والمساجد.

آنذاك كان الجميع مستهدفا على مستوى التفرقة القبلية، المسلم وغير المسلم.

طبعا كانت هناك حالات معدودة شاذة، لكن السواد الأعظم رفض القتل والإبادة والفظائع والمشاركة فيها.

كما قام المسلمون بدور فاعل في الدفاع عن المضطهدين والملاحقين، لا سيما في المنطقة الشرقية.

جانب من المسجد الملحق في مركز المجلس الإسلامي الأعلى لمسلمي رواندا (الجزيرة) هل من حوادث تذكرونها عن تلك الفترة؟ هناك إمام مسجد في قرية عند نهر، تقابلها على الضفة الأخرى قرية ثانية، عندما بدأ الهجوم على تلك القرية، وبدأت جثث الضحايا تُرمى في النهر، كان لا بد من جهاد لإنقاذ أرواح الأبرياء.

نظم المسلمون أنفسهم واجتازوا النهر باتجاه تلك القرية وقاتلوا المهاجمين، ودافعوا عن التوتسي.

وفي تلك القرية لم يكن التوتسي من المسلمين، فأنقذوا 1300 شخص منها، وعادوا بهم إلى المسجد، وقُتل كثير من المسلمين وهم يدافعون عن أهلها.

ومن بينهم، قاتل أحد الشبان حديث العهد بالإسلام والده الذي كان من أفراد المليشيا التي ترتكب المجزرة، كان يقاتل مع المسلمين دفاعا عن الأبرياء ضد أبيه.

وهذا أروع مثال كيف أن الإسلام يترفع عن النزعات القبلية، وكيف أن ديننا أعلى من أي انتماء قبلي.

لذلك، تحولت المساجد إلى مأوى للناجين، حيث وجدوا الأمان.

قبل الإبادة، كان عدد المسلمين لا يتجاوز 2% من السكان، وبعدها تمت الإضاءة على الدور النبيل الذي قام به المجتمع المسلم.

والمسلمون بدورهم، بدؤوا بحركة دعوية قوية مع إخوانهم، بدأ الناس يفهمون الإسلام.

حينها، وبعد انتهاء المجازر، سمعنا على لسان المسؤولين مقولات شهيرة بأنه "لو كان عدد المسلمين الروانديين أعلى، لما حدثت الإبادة الجماعية ضد التوتسي".

وبدأنا نلمس تقربا واضحا من الحكومة، حتى أن حكام المقاطعات أكثروا من الطلب منا إرسال قوافل دعوية لتأتي وتعلم الناس الإسلام.

مثلا في إحدى المناطق شرق البلاد، استشرت الجريمة وانتشرت الدعارة، وعجزت الشرطة عن السيطرة على الانفلات، وحدث أن توجهت القوافل الدعوية هناك، فدخل قرابة 500 شخص الإسلام، ومنهم مجرمون سابقون.

ولاحظت السلطات بعدها غياب تسجيل أي انتهاك أو دعاوى، وبدأت تتساءل ما الذي جرى؟ هل انتقلت العصابات من تلك المنطقة؟ فأعلمهم أحد المسـؤولين المحليين أن رؤساء العصابات دخلوا الإسلام.

فتقصت الشرطة حقيقة الأمر ووجدت أن المجرمين باتوا في هيئة حسنة ويتميزون بالانضباط، بل ويقودون حملات تحسين في مناطقهم، فرفعت تقريرا يوثق ذلك ويخلص إلى أن الإسلام غيّر وجه المنطقة.

لذلك، وحتى يومنا هذا نستمر في قوافل الدعوة بالتنسيق والمشاركة والترحيب من الحكومة.

ما الذي يقدمه المسلمون لمجتمعاتهم راهنا، ولدولتهم؟ المسلمون شاركوا ويشاركون بفاعلية، منذ وقف الإبادة الجماعية بحق التوتسي، في تنمية الدولة، ويعملون بجد لتمتين السلم المجتمعي.

وفي المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، نحرص دوما على تذكير أتباعنا بدورهم في الحفاظ على ما وصلنا إليه من سلم وأمن والطريق أمامنا طويلة، كما غيرنا من الروانديين.

خسرت رواندا وخسرنا 1.

2 مليون مواطن، والآن نعمل باسم الضحايا ونيابة عنهم لنحافظ على السلم، وتعزيز ما وصلت إليه دولتنا.

في خطب الجمعة، نذكّر المسلمين بسيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وبأنه يقول لنا إن من يصنع لنا معروفا نكافئه عليه، فكما قدمت لنا دولتنا بعد المجازر كل الدعم والمؤازرة، نقدم لها إخلاصنا وجهدنا ومشاركتنا في مسيرة التنمية واحترام القوانين، ونكرر كل هذا لتعزيز المواطنة وتمتين التعايش السلمي والوحدة بين أبناء الوطن الواحد.

ولا بد من كلمة أخيرة لفخامة الرئيس ، إذ نشكره على رعايته لمسلمي رواندا ونتمنى له السداد والتوفيق في طريق استدامة التنمية، وتحقيق المساواة، وإعادة حقوقنا بصفتنا مواطنين في وطننا.

الوكالات      |      المصدر: الجزيرة    (منذ: 2 أسابيع | 2 قراءة)
.