الوديعة .. معبر الأمل والمعاناة بين نار الصحراء اليمنية ومقصلة الانتظار، آلاف العابرين يُتركون لمصيرهم وسط الإهمال والتضييق

الوديعة .
.
معبر الأمل والمعاناة بين نار الصحراء اليمنية ومقصلة الانتظار، آلاف العابرين يُتركون لمصيرهم وسط الإهمال والتضييق في عمق الصحراء اليمنية، على الطريق الممتد إلى منفذ الوديعة الحدودي، تتناثر مشاهد البؤس في وضح النهار.
عشرات الحافلات المتهالكة تصطف في طوابير مكلومة، محمّلة بأناس أنهكهم العطش والحرّ والانتظار.
بين رمالٍ تلتهب تحت الشمس، وهواء مشبع بالغبار، تمتد رحلة العذاب اليمنية من مدن الداخل صوب البوابة البرية الوحيدة التي تربط اليمن بالعالم الخارجي عبر السعودية.
لكن هذا الأمل غالبًا ما يُوأد على أعتاب الصحراء، إذ تحوّل منفذ الوديعة من ممر عبور إلى محطة إذلال جماعي لآلاف اليمنيين.
نساء وأطفال يفترشون الرمل.
.
ومرضى على حافة الموتمنظر مألوف على قارعة الطريق في منطقة العبر الحدودية: نساء يغطين أطفالهن بعباءات مهترئة لتقيهم لهيب الشمس، مرضى يتنفسون بصعوبة داخل الحافلات، بعضهم قادمون للعلاج، وآخرون في طريقهم لفرص عمل أو زيارات عائلية.
لكن الجميع عالقون وسط اللامكان، لا ظل ولا ماء ولا طعام.
"لي أربعة أيام أنام في الباص.
.
معي والدتي مريضة سكري وضغط، انتهى علينا الماء والأكل"، يقول محمد، شاب يمني من تعز، كان متجهاً لزيارة أشقائه في جدة.
وتضيف أم أحمد، وهي أرملة في الخمسين من عمرها: "قالوا لنا الطريق آمن وسريع.
.
لكننا وجدنا أنفسنا في جحيم.
حتى دورة مياه نظيفة لا توجد".
شركات النقل: وعود كاذبة وترويج مضللالرحلة غالباً تبدأ بإعلانات براقة من شركات نقل جماعية: "رحلات يومية إلى منفذ الوديعة – مكيفة – مريحة – عبور سريع".
لكن الحقيقة تظهر في صحراء العبر، حيث تتخلى معظم تلك الشركات عن المسافرين عند أول نقطة تفتيش، وتتركهم لمصيرهم بحجة "تعطل الإجراءات" أو "غياب التنسيق مع الطرف السعودي".
يؤكد أحد السائقين أن الشركات "تعرف تماماً أن المسافرين سيبقون عالقين لأيام، لكنها تواصل بيع التذاكر دون توضيح".
وأضاف: "نحن مجرد أدوات.
.
بعد ما نوصل النقطة الأخيرة، ينقطع الاتصال بالشركة ونضطر نرجّع أو ننتظر مثل الركاب".
بين تضييق سعودي وتراخٍ يمنيمن جانبهم، يتهم الركاب سلطات المنفذ اليمني بالتقاعس عن توفير أبسط مقومات الخدمة أو التدخل لحل الأزمة، بينما تُلقي تلك الجهات باللوم على الجانب السعودي، الذي يشدد إجراءاته الأمنية منذ سنوات، ويُتهم بـ"التباطؤ المتعمد" في إدخال المسافرين اليمنيين تحت ذرائع مختلفة، بينها "ازدحام المعبر" أو "تعليمات أمنية عليا".
وفي بعض الحالات، يُمنع الركاب من العبور بسبب تفاصيل بسيطة: خطأ في اسم الجواز، أو تأشيرة علاج غير واضحة، أو وجود طفل دون تصريح.
“المهربات” في قلب الأزمةمصادر ميدانية تؤكد أن شبكات التهريب النشطة في تلك المنطقة ساهمت في تشديد الرقابة والإجراءات، حيث يستغل بعض المهربين منفذ الوديعة لتهريب السلع، المشتقات النفطية، أو حتى الأشخاص دون وثائق.
ما أدى إلى "عقاب جماعي" للمسافرين الشرعيين، الذين يدفعون ثمن فوضى لا يد لهم فيها.
وتقول المصادر إن التواطؤ بين عناصر في شركات النقل وبعض النقاط الأمنية سهّل هذا النشاط، مقابل عمولات ومبالغ مالية كبيرة.
بنية متهالكة.
.
وإيرادات مجهولة المصيررغم أن منفذ الوديعة يُعد من أكثر المنافذ اليمنية نشاطًا، إلا أن البنية التحتية المحيطة به بدائية ومتهالكة.
لا توجد صالات انتظار مجهزة، ولا خدمات صحية، ولا مرافق إنسانية.
ويُقدّر اقتصاديون أن المنفذ يدر ملايين الدولارات من الرسوم والضرائب اليومية، لكن لا أحد يعلم أين تذهب هذه الإيرادات.
إذ تغيب الرقابة والشفافية، في ظل فوضى إدارية بين الحكومة الشرعية، ومكاتب النقل، والسلطات المحلية.
اتهامات متبادلة.
.
والضحايا في المنتصففي مشهد يعكس غياب الدولة، تتقاذف الأطراف المعنية المسؤولية.
الحكومة اليمنية تلقي باللوم على إجراءات السعودية، فيما يتهم السكان والركاب الطرفين معاً بالإهمال والتسيّب.
أما شركات النقل، فتؤكد أن "المعاناة خارجة عن إرادتها"، لكنها لا تتوقف عن بيع التذاكر وجني الأرباح، حتى لو كانت النتيجة ركابًا نائمين على الرمل في درجة حرارة تقارب 45 مئوية.
أصوات بلا صدى.
.
أين المنظمات؟رغم هذه المعاناة المستمرة، يغيب دور المنظمات الحقوقية والإنسانية بشكل شبه كامل، باستثناء بعض المبادرات الفردية لتوزيع مياه أو وجبات بسيطة.
ولا تزال الأصوات المطالبة بتحسين أوضاع منفذ الوديعة محدودة، وسط تجاهل إعلامي رسمي محلي ودولي، ما يزيد من تفاقم الأزمة.
خاتمة: معبر يتحوّل إلى مقبرة للأحلامما كان يفترض أن يكون بوابة عبور نحو حياة أفضل، تحوّل في الواقع إلى نقطة موت بطيء تحت الشمس.
الآلاف من اليمنيين يدفعون ثمن فساد إداري، وفوضى مؤسسية، وتضييق سياسي، في رحلة لا تنتهي إلا بالخذلان.
الوديعة اليوم ليست مجرد منفذ حدودي، بل مرآة حقيقية لانهيار الخدمات، وتآكل المسؤولية، وتغوّل المعاناة اليمنية حتى في لحظات الأمل.