3 يوليو والانفجار الصامت: الإخفاء القسري كأداة لحكم مصر

3 يوليو والانفجار الصامت: الإخفاء القسري كأداة لحكم مصر

في 11 آب/ أغسطس 2003، خرج الصحفي المعروف رضا هلال من منزله في وسط القاهرة، ولم يعد.

.

نائب رئيس تحرير صحيفة الأهرام في حينه، وأحد رموز الصحافة المصرية المقربين من دوائر القرار، اختفى فجأة دون أثر.

لا بلاغ رسميا، لا تحقيق جادا، لا رواية مفهومة.

ومنذ أكثر من عشرين عاما، لا تزال قضية اختفائه غارقة في الصمت.

بعده بسنوات، وتحديدا في أيلول/ سبتمبر 2018، اختفى المعارض السياسي والطبيب الشاب د.

مصطفى النجار.

.

نائب سابق في البرلمان، شارك في الثورة، وكان صوتا عقلانيا في ساحة مشبعة بالشعارات.

لم يكن راديكاليا ولا عنيفا، بل سعى دوما إلى الإصلاح من داخل النظام، لكنه أيضا اختفى، ومنذ أكثر من ثماني سنوات، لا يعلم أحد إن كان حيا أم ميتا.

هاتان الحالتان تختصران الوجه الحقيقي للإخفاء القسري: إنها جريمة لا تُرتكب بالضرورة ضد خصوم عنيفين، بل حتى ضد أبناء النظام، أو معارضين معتدلين.

إنها ليست مجرد إجراء أمني، بل منهج لإدارة الخوف داخل الدولة والمجتمع.

إنها جريمة لا تُرتكب بالضرورة ضد خصوم عنيفين، بل حتى ضد أبناء النظام، أو معارضين معتدلين.

إنها ليست مجرد إجراء أمني، بل منهج لإدارة الخوف داخل الدولة والمجتمع من عبد الناصر إلى اليوم: سجل طويل من التغييب رغم أن مصطلح دخل القاموس الحقوقي الدولي حديثا، فإن ممارساته بدأت مبكرا في مصر.

ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، تم تغييب العشرات من الخصوم السياسيين في زنازين سرية.

وفي تسعينيات الصعيد، اختفى البعض دون محاكمة أو محضر.

لكن بعد 2013، لم تعد هذه الممارسة استثناء، بل تحولت إلى نظام كامل له أدواته، ومقاره، وأهدافه.

بحسب منظمات مستقلة، تم توثيق آلاف الحالات منذ 2013، بينها لأطفال ونساء وشباب، وبعضهم اختفى ثم ظهر لاحقا في مقاطع "اعترافات" تحت الضغط، بينما ظل آخرون، مثل مصطفى النجار، مجرد اسم على لائحة منسية.

لماذا تلجأ الدول إلى الإخفاء القسري؟ لأنها تعتبر الخوف وسيلة حكم، لأن القضاء المستقل والصحافة الحرة والمؤسسات الرقابية لم تعد موجودة، أو فقدت أنيابها، لأن الدولة تخاف من مواطنيها، ولا تثق في قدرتها على إدارة الخلاف إلا بالقبضة الأمنية.

الإخفاء القسري أداة مثالية للأنظمة ، فهو: - ردع المعارضين دون حاجة لمحاكمة علنية.

- يرهب المجتمع برسالة صامتة "لا حصانة لأحد".

- يُخفي فشل الأجهزة حين تفشل في توجيه تهم قانونية.

-  يحفظ صورة الدولة أمام المجتمع الدولي بعدم وجود " سياسيين"، فقط مفقودين! لكن الغريب، والمخيف في آن، هو أن الدولة أحيانا تمارس الإخفاء القسري ضد أبناء النظام نفسه، كما في حالة رضا هلال.

فإذا كان رجل بحجمه، وقربه من مراكز القرار، قد اختفى دون أثر، فما الذي يُطمئن أي شخص آخر في هذا البلد؟ مصطفى النجار: لماذا يخيفهم الإصلاح؟ كان مصطفى النجار نموذجا سياسيا جديدا في مصر؛ شابا، طبيبا، مثقفا، ومناضلا ناعما.

لم يدعُ إلى عنف، ولم يسب النظام، بل كان يحلم بوطن يسع الجميع، ومع ذلك، حين بدأ يتعرض لضغوط قضائية بعد 2013، اختفى فجأة.

الحكومة زعمت لاحقا أنه "هرب إلى الخارج"، بينما تؤكد أسرته استنادا إلى تقارير منظمات دولية أن كل المؤشرات تشير إلى إخفائه قسريا.

وحتى اليوم، لم يظهر، ولم تفتح الدولة أي تحقيق جاد.

ما لا تفهمه الأنظمة التي تمارس الإخفاء القسري هو أن هذه الجريمة لا تقتل الأشخاص فقط، بل تقتل ثقة الناس في الدولة ذاتها.

فحين يعجز أب عن معرفة مصير ابنه، أو تُمنع أم من دفن ابنها، أو يغيب نائب برلماني دون توضيح، فإن الشعور باللا جدوى، واللا أمان، يصبح هو القاعدة وهكذا، يبدو أن الاعتدال نفسه أصبح جريمة.

فالدولة لم تعد تميز بين متطرف وإصلاحي، ولا بين خصم وعدو.

.

كل صوت مستقل هو تهديد محتمل، وكل كادر واعد هو مرشح للتغييب.

الإخفاء طريق إلى الانهيار ما لا تفهمه الأنظمة التي تمارس الإخفاء القسري هو أن هذه الجريمة لا تقتل الأشخاص فقط، بل تقتل ثقة الناس في الدولة ذاتها.

فحين يعجز أب عن معرفة مصير ابنه، أو تُمنع أم من دفن ابنها، أو يغيب نائب برلماني دون توضيح، فإن الشعور باللا جدوى، واللا أمان، يصبح هو القاعدة.

حين تُخفي الدولة أبناءها، فهي تعلن فشلها في الاحتواء، وفي العدل، وفي السياسة.

وحين يختفي أبناء النظام كما المعارضين، فهذه علامة على أن الدولة نفسها لم تعد تعرف مَن يحكم مَن، ومَن يحمي مَن، ومَن يختفي، ومتى ولماذا.

لا مستقبل لدولة تُخفي أبناءها العدالة لا تستقر على القهر، ولا الأمان يُبنى على الرعب.

إن الدولة التي تثق في شعبها، لا تحتاج إلى الإخفاء القسري، بل إلى القانون والمؤسسات والشفافية.

أما الدولة التي تخاف من كل صوت، حتى من داخلها، فهي دولة في طور الانكماش، لا التماسك.

رضا هلال لم يكن خصما، ومصطفى النجار لم يكن خطرا، ومع ذلك كلاهما اختفى.

هذا وحده كافٍ لنعرف أن الإخفاء القسري ليس جريمة عارضة، بل سياسة دولة حين تفقد قدرتها على مواجهة الحقيقة.

منوعات      |      المصدر: عربي 21    (منذ: 6 ساعة | 0 قراءة)
.