×

القاصة والناقدة غزلان هاشمي: الحذر من الرسائل الإيديولوجية المضمرة

القاصة والناقدة غزلان هاشمي: الحذر من الرسائل الإيديولوجية المضمرة | Azzaman

القاصة والناقدة غزلان هاشمي: الحذر من الرسائل الإيديولوجية المضمرة

 

حوار: احمد الحاج جاسم العبيدي/ العراق

الدكتورة غزلان هاشمي قاصة وناقدة واستاذة محاضرة في قسم اللغة والأدب العربي في كلية الآداب واللغات في جامعة محمد الشريف مساعدية في مدينة سوق اهراس في الجزائر، تهتم بالنقد الأدبي والنقد الثقافي، وصدر لها عدة كتب في هذا المجال، كما أنها ترأس قسم الدراسات الأدبية والفكرية في مركز جيل للبحث العلمي، وكذلك ترأس تحرير مجلة جيل للدراسات الأدبية والفكرية ولها حضور علمي على المستويين المحلي والعربي، وبمناسبة صدور كتابها الموسوم “عبد الوهاب المسيري: من تفكيك المركزيات إلى تأسيس حداثة اسلامية قراءة في الحدود والمنجز” كان لنا معها هذا الحوار الممتع.

– من الملاحظ أن معظم النقاد في الوطن العربي اتجهوا للنقد الثقافي على حساب النقد الأدبي، ما السبب برأيك؟

من وجهة نظري فإن اتجاه النقاد إلى النقد الثقافي أملته التحولات التي حصلت على المستوى المعرفي والسياسي والثقافي والاجتماعي، كما أن انفتاحه على حقول معرفية عديده وارتكازه على استراتيجيات قرائية تتيح فك شفرات النص والوقوف على أسراره، جعلت منه النقد المفضل، فالحوارية التي يتميز بها ومحاولة كشفه لأنساق الهيمنة يتوافق والاتجاه العام نحو تأصيل فكر الاختلاف والتعدد ونبذ الفكر الأحادي والمنغلق أو الوصاية الفكرية وعمليات التنميط المتبعة من قبل المؤسسات أو السلطات المرجعية على اختلافها، فالإنسان العربي اليوم وبعد كل الظروف التي مر بها صار ينزع نزوعا ثوريا رافضا للعقلية الاقصائية والاستبعادية، ومعه الناقد العربي صار يرى أنه حان الوقت للنبش عميقا ولمراجعة السائد والمتعارف والمألوف.

– هل تجدين أن النقد الثقافي هو الأقرب إلى النص العربي نقداً وتحليلا؟

لا أستطيع الجزم بذلك، فلكل نص خصوصيته وهو ما يفترض أن نتعامل معه وفق رؤية نقدية معينة، ثم أن النص يرتكز على التعدد ويقوم على التغاير والاختلاف وهو ما يفترض كذلك تقديم قراءات هاربة من سلطة التفسير الأحادي، وكأن بالقراءة هنا عملية حوارية أكثر منها تمثلا لمنهج معين أو التزاما بأدوات نقدية محددة، والقول بغير ذلك يحول القراءة إلى عملية تعسفية، إذ قد لا تسعف آلياته الناقد في الكشف عن أسرار النص ودلالاته المغيبة

س٣ في كل كتبك وجدت لك تحيزا كبيرا للنقد الثقافي على حساب النقد الأدبي، ما السبب الذي يقف وراء ذلك؟

بالعكس، معظم مؤلفاتي عبارة عن قراءات تأويلية لا تبحث في الأنساق المضمرة، وإنما تحاور النص وتعتبر النقد عملية ذوقية ومتعة يقتضيها التغاير، إذ عادة لا أطمئن إلى الجاهز والظاهر، وإنما أذهب بعيداً بعيداً عن العدة الإجرائية التي تجعل من النقد عملية نخبوية مثقلة بالصبغة المدرسية… وبعض مؤلفاتي وكذلك العديد من القراءات المنشورة في المجلات والصحف تؤكد هذه الرؤية.

– في إطار النقد الثقافي، مثلما تعلمين دكتورة هاشمي بأنه ظهر غربيا ولكنه نشأ وترعرع في أحضان اللغة والأدب العربي بشكل كبير، ما السبب برأيك؟

لا يمكننا أن ننكر تأثيرات الآخر علينا وعلى منظومتنا الفكرية، والعقلية الاستعارية هي من صميم الذات الإنسانية، لأن كل حضارة حينما تكون في أوج قوتها تحاول بقية الأمم تقليدها في محاولة للوصول إلى مكانتها، فكما يقول ابن خلدون “المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده”، لكن للأسف هذا التقليد لا يرافقه الحذر من الرسائل الإيديولوجية المضمرة، ولا نقد وتمحيص للمرجعيات، ولا مراعاة للسياق الثقافي العربي وللتغاير على المستوى الهوياتي والديني والاجتماعي…، وهذا مايجعل من أمر تبيئة المناهج والأفكار في كثير من الأحيان تبدو عملية تعسفية، لهذا اتخذ الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن موقفا سلبيا من القول الفلسفي العربي بسبب هذا الإغراق الكبير في التقليد والمماثلة، ووافقه في ذلك العيد من مفكرينا.

في كل مرة نقوم بتبني المناهج الغربية الحداثية ونهرول من أجل ترجمتها وتطبيقها على نصوصنا دون الانتباه إلى تحيزاتها، ننبهر بمقولات الغرب ويدفعنا الإحساس بالنقص إلى محاولة اللحاق بالركب من خلال التطابق مع الآخر فكرا وسلوكا وممارسة، بل وحتى إذا ما تخلى الغرب عن هذا الفكر بعد المراجعة وبعد أن يثبت لديهم فشله، نبقى نحن نتبناه بكل تناقضاته وملابساته وسلبياته. .، والنقد الثقافي لا يشذ عن ذلك، من وجهتي نظري قد يكون فكر الامتثال موضة نقدية يهرول إليها نقادنا ويسوغون ذلك بضرورة اللحاق بالغرب والإفادة من منجزاتهم واتباع نفس خطواتهم من أجل تحقيق تنوير عربي، وقد يكون لبعض الظروف مفاعيلها مايجعل العقل العربي تركيبيا أو تلفيقياً يؤمن بحلول لا تزيده غير حيرة وإرباكا.

– لديك كتاب عن المنهج النقدي عند عبدالله ابراهيم، ممكن تحدثينا عنه؟

تعارضات المركز والهامش في الفكر العربي المعاصر ـ عبد الله إبراهيم أنموذجا ـ عبارة عن قراءة في المشروع الفكري لهذا الناقد العراقي الذي اهتم بتفكيك المركزيات الكبرى الغربية منها والإسلامية، وقد حاولت فيه تقديم إضاءات حول هذا المشروع الضخم ومحاورته من خلال ثنائية ارتكزت عليها مؤلفاته وهي ثنائية “المركز والهامش”، أي من خلال الحديث عن إساءات التمثيل التي يعتمدها المركز في خطاباته الفلسفية والأدبية والتاريخية… من أجل تبخيس الآخر وأبلسته ومن ثمة تسويغ السيطرة عليه واختراقه

تحدثت في مدخل الدراسة عن تيارات فكرية حاولت إعادة الاعتبار للهامش في سياق مايسمى ما بعد الحداثة، بينما تحدثت في الفصل الأول عن إشكالية التمركز في أعمال عبد الله إبراهيم، مع البحث في منطلقات القراءة لديه، وأما الفصل الثاني تحدثت عن قراءته للسرد العربي القديم وآليات التمركز الديني فيه، لأختم الكتاب بفصل ثالث يعرج على رؤية الناقد لظهور الرواية العربية التي تغاير السائد أو ماتروجه الخطابات النقدية العربية.

– هل أن مواضيع مثل النسوية، الاستغراب، التفكيكية، الزنوجة، هي ضمن مفردات النقد الثقافي؟

هذه الموضوعات ليست من مفردات النقد الثقافي، وإنما تيارات فكرية وأدبية ما بعد حداثية تندرج ضمن هذا النقد أو ضمن مايسمى بالدراسات الثقافية حاولت تقويض فكرة التمركز من خلال الاحتفاء بالهامشي والمقموع ورفض الثنائيات الضدية، وهنا نقطة الاشتراك بينها وبين النقد الثقافي الذي حاول الكشف عن أساليب الهيمنة والتسلط التي يمارسها الخطاب، وعن الحيل الجمالية التي يعتمدها من أجل تمرير رسائل إيديولوجية معينة واهتم بالمهمل والمهمش، لذلك وحتى نضبط المفاهيم لابد من القول أنها تنويعات له وليست من مفرداته، أما التفكيكية بوصفها استراتيجية قرائية تحاول التحرر من سطوة المناهج ونزعتها المدرسية وسلطتها التي لا تقدم قراءة حقيقية للنصوص حسب رأي متبنيها، فقد أثرت بشكل كبير في ظهور النقد الثقافي، لذلك نلمح ملامحها وآلياتها في استخدامات هذا النقد، وقد أدرجتها مع هذه التيارات لأنها تحتفي بالاختلاف والتعدد، وتعنى بإلغاء فكرة المركز أو الثنائيات الضدية التي تخلق التراتبية الإنسانية، وتقصي كل ماهو هامشي.

– أين تضعين البيئية، أو النقد البيئي؟

النقد البيئي من مخرجات مابعد الحداثة كذلك، فقد التفت إلى قضايا كانت هامشية من قبل، واهتم بدراسة البيئة باعتبارها مشكلا ثقافيا كذلك، فهذا النقد أملته ظروف المدينة المعاصرة والمجتمعات الصناعية التي أحدثت أضرارا كثيرة وهددت الحياة الإنسانية، لذلك نجده ينحو منحى تفكيكياً وثقافيا في مقاربة الظواهر البيئية في النصوص والخطابات، من أجل تفسير الكثير من العلاقات والسلوكات البشرية كالعرق والجنس.. على اعتبار أنها معطى طبيعي بيئي…

-هل لديك بحوث ودراسات تعنى بالنقد الأدبي؟

كتاب تعالقات النص وانفراط الهوية، وكذا كتاب النص بين حدود الإفصاح وتمثل المرجعيات… تعود بالقارئ إلى أحضان الأدب والنقد الأدبي، فالأول عبارة عن قراءات في نصوص قصصية وشعرية جزائرية وعربية، والثاني احتوى على عدد من المقالات التي تحدثت عن بعض القضايا النقدية، إضافة إلى محاورة بعض النصوص الروائية والشعرية كذلك.

– قد لا يكون ناقد الشعر متمكنا من نقد القصة، والعكس أيضاً صحيح مالم يحط بمكونات كل فن، مدى صحة هذه المقولة؟

لكل جنس أدبي خصوصيته وهو ما يفرتض أن تكون هناك استراتيجيات قرائية معينة تستخدم في مقاربة كل جنس، فالمعايير الجمالية القائمة على التغاير تفترض أن يكون الناقد ملما بها حتى يستطيع الوقوف عندها واستكشاف أنماط اشتغالها والإضافات التي قدمتها للنص، لكن مع التغيرات الحاصلة اليوم على مستوى الوعي الجمالي والنقدي، ومع تذويت النص والاهتمام بمفاعيله القرائية، ومع تذويب الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، صار الشعر منطويا على هويات متعددة، تعد بالإرباك ومن ثمة التجاوز ثم التعدد، والأمر ذاته مع القصة، فملامحها التقليدية تلاشت وصرنا نشهد نوعا من الكتابة القصصية التي تغادر منطقها وتثور على نمطيتها وكل معيارية ثابتة، إذ تحقق انتشاءها من خلال الإلغاز والتكثيف والتجاور الأجناسي…، وهو مايجعلنا نتخلى عن الثنائية التقليدية: ناقد الشعر/ ناقد القصة أو السرد بصفة عامة، ونعوضها بالقارئ النوعي الذي ينتشي بفعل الاستنطاق، إذ يجب أن يكون ملما بمختلف المعارف حتى يستطيع فك شفرات النص والوقوف على دلالاته المغيبة.

– بالحديث عن النقد الادبي الحديث وجد الباحثون مقاربات نقدية لكل من البنيوية والدلالية والسيميائية لدى العلماء العرب مثل سيبويه والجاحظ والجرجاني، هل هناك تجارب عربية مشابه للنقد الثقافي سبقت الغرب؟

العبقرية العربية لا تبنى بالتسويغ والبحث عن الذات في فكر الآخر، أو عن فكر الآخر في منجزات الذات قديما، فلكل مرحلة خصوصيتها وزمنها النقدي الذي يساير العقل وطبيعة تفكيره ضمن سياق حضاري معين، لذلك أرى أن محاولة ربط المناهج الحداثية ومابعد الحداثية بما أنجزه العقل العربي قديما تعبر عن مأزق نفسي بسبب الصبغة التلفيقية والتبجيلية أيضا التي تتميز بها خطابات بعض نقادنا، الأجدى إذن هو الإجابة عن سؤال مهم: كيف نحقق زمننا النقدي العربي؟ وكيف نخرج من مأزق المماثلة والتطابق ؟ وكيف نتخلص من العقلية الانبهارية وننطلق وفق اعتباراتنا حتى ولو استفادت من منجزات الآخر بشكل جزئي؟

– كيف تختار الدكتورة غزلان هاشمي نصوصها النقدية؟ هل هناك آلية تتبعينها في انتقاء هذه النصوص؟

اخترت من النصوص ماكانت قائمة على التغاير والاختلاف، تلك التي تحدث الدهشة والإرباك لدى قارئها وتنبني على الاستشكال وإثارة الأسئلة، إذ لا تقدم أجوبة بقدر ما تثير احتمالات المعنى، تلك النصوص التي تغادر منطقها وتجاوز دلالاتها الظاهرة لتشرك القارئ في عملية التأويل، ولربما ماذكره الناقد العراقي وأستاذ الأدب الحديث بجامعة القادسية الدكتور كريم المسعودي حول كتاب تعالقات النص وانفراط الهوية يلخص ذلك، حينما قال:” إنّ غزلان هاشمي ترفض أنساق التماثل، وهوية الخضوع، وتبحث – في الأدب – عن صوت الإنسان الذي يسعى إلى تحقيق (هويته)، أو معناه الذي به يتأكد جوهره الإنساني: حرّية وسموّاً وتفرّداً اصيلاً. ولهذا جاء اختيارها للنصوص معبّراً عن هذا الوعي، أو لأقل يصدر عن هذه الرؤية، فالنقد وعي، وفعل مثقف. ولعل قراءة النص، ولاسيما التأويلية، إعلان عن (وعي) القارىء بكشفه عن (ذات) النص، أو هويته المتجسّدة باللغة. وقد وُفّقت الناقدة – إلى حدّ بعيد – في قراءتها عددا من النصوص التي حاولت استجلاء لغتها، وكانت حريصة على أن تتوقف عند النصوص التي تنطوي على دلالة المغايرة، أو (الإغتراب). . وهذا ما يدعو إليه العنوان”.

– معظم دراساتك عن نقاد ومفكرين عرب، وهي تقع تحت بند نقد النقد، هل تفضلين هذه الميزة على نقد النصوص ؟

نقد الفكر هو من صميم تخصصي الأكاديمي إضافة إلى أنه هوس معرفي لازمني منذ سنوات لذا كان اختياري له واعيا ومدروسا، وأما نقد النصوص الأدبية فيمكن اعتباره ممارسة ممتعة في استنطاق النصوص ومحاورتها بعد عقد علاقات صداقة معها، لذلك لا أفاضل بينهما، وهذا مايجعل كتاباتي تتراوح بينهما، الفكر يزاحم الأدب والأدب يزاحم الفكر، فلا ينتصر أخيرا في ذاتي وفي عقلي غير التأويل والاستنطاق.

-هناك مقولة تفيد بأن الناقد الأكاديمي لديه قوالب جاهزة في تقنيات التحليل، بينما الناقد الإبداعي يسبر غور النص بمفردات جديدة، ما تقولين في ذلك؟

الناقد المبدع هو الذي يستطيع تجاوز المفاهيم المستهلكة، ويفهم أن لكل نص فرادته، وأنه لا يمكن التعامل مع كل النصوص بنفس الآليات والتقنيات، فهو الذي يتجاوز ذاته باستمرار لينتج خطابات نقدية قائمة على التغاير بل تبحث في النصوص على هذا التغاير، الناقد المبدع إذن يمقت الجاهزية لذلك يمكن القول أنه القادر على تثوير النص وفك استغلاقه وتحليل شفراته واستنطاقه من أجل الوصول إلى دلالاته المغيبة، فهو الذي يتحرر من إسار النظرية ومن سلطتها التي تقمع النص وتنشغل بمدى مطابقته للمقولات النقدية، ليجعل من القراءة ممارسة حرة ومبدعة، أو كما يسميها الكاتب والصحفي الليبي أحمد الفيتوري الفاعلية النقدية والتي لا تغيب عنده حتى وإن غابت النظرية النقدية المقننة. .

– صدر لك كتاب مؤخرا عن عبدالوهاب المسيري، ممكن تحدثينا عن منهجك المتبع فيه؟

الكتاب عبارة عن مساءلة لمشروع المفكر المصري عبد الوهاب المسيري رحمه الله، فقد حاولت تقصي فكرة التحيز في مؤلفاته المختلفة والتي هدف من ورائها إلى كشف تناقضات الخطاب الغربي الصهيوني وتهاوي ادعاءاته، وسياسة الكيل بمكيالين التي يعتمدها، وقسمت الكتاب الصادر عن “دار إيلياء للنشر والتوزيع” في شهر جانفي 2024، إلى مدخل وأربعة فصول، حيث تحدثت في المدخل عن مختلف التيارات الفكرية المعاصرة التي اتجهت نحو كشف مضمرات الخطاب، وفضح تحيزاته كالنقد النسوي والنقد الثقافي وما بعد الاستعمار، وهي تيارات انشغلت بالتراتبات الإنسانية المغشوشة التي تعج بالقيميات المتوارثة، والتي تتلاعب خطابيا من خلال تبخيس صورة الهامش والإعلاء من قيمة المركز مهما كان نوعه.
بينما الفصل الأول بحثت في إشكالية التحيز في خطاب عبد الوهاب المسيري، أو ما يمكن تسميته بالمقاومة الثقافية، حيث سعى من خلالها إلى قراءة المنجز الفلسفي والمعرفي والتاريخي الغربي للكشف عن جاهزية الأحكام التي يتبناها بهدف شيطنة الآخر وتسويغ اختراقه.
في حين تحدثت في الفصل الثاني عن الثوابت الإنسانية في القراءة النقدية والأدبية لعبد الوهاب المسيري، إذ بينت أن قراءته للنصوص الأدبية لم تنفصل عن رؤيته الفكرية والمنهجية بشكل عام، أما الفصل الثالث فبحثت في خطاب الهوية عنده، إذ حسب ما أرى كان مشروعه جزءا من الدفاع عن الهوية العربية والإسلامية ضد المشروع التغريبي الاستيطاني والصهيوني، وعن حق الدول الإسلامية المشروع في تأسيس حداثتها الخاصة وعن حقها التاريخي كذلك في أرض فلسطين وفي بقية الأراضي المحتلة، مع التعريج في الفصل الرابع على المنهج والأدوات التحليلية التي استعملها الناقد في مقاربة النصوص الفكرية على اختلافها، وكذا التحولات الفكرية التي مر بها.
وكما ذكرت مقاربات المسيري في إطار المراجعات الفكرية التي انتشرت في الساحة الفكرية العربية، من أجل رد الاعتبار للذات وفك عقدة النقص التي تشعر بها إزاء الآخر، أو كما يسميها المفكر المصري حسن حنفي بعلم الاستغراب البديل عن علم الاستشراق، الذي كان متحيزا لنسقه الحضاري ولإيديولوجيته وخادما لمصالحه الاستعمارية، وهذا سبب اخياري لمشروعه الفكري.

– نادى المسيري بالعلمانية الشاملة وهي فصل القيم والأخلاق والدين عن الدولة، ثم دعى الى حداثة تتبنى العلم والتكنولوجيا ولا تضرب القيم، أليس هذا يعد تناقضاً برأيك؟

لم يطالب المسيري بتبني نموذج العلمانية الشاملة، بالعكس هو عدد سلبياتها من بينها اختزال الإنسان في جانبه المادي، بل وقدم مظاهرها كالانتشار العقل الأداتي والتسلع والتشيؤ والتكنوقراط..، فهذه العلمانية تلغي أي مرجعية أخلاقية ثابتة، وهو مايجعل عالمه قائم على المصالح والمكاسب، إذ معها تنتفي العلاقات الإنسانية. .،لذلك يقول عنها في كتابه “العلمانية تحت المجهر” رؤية شاملة للعالم ذات بُعد معرفي ( كلّي ونهائي)، تحاول بكل صرامة تحديد علاقة الدِّين والمطلقات والماورائيات (الميتافيزيقية) بكل مجالات الحياة، وهي رؤية عقلانية مادية، تدور في إطار المرجعية الكامنة والواحدية المادية التي ترى أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم باسره مكوّن أساساً من مادة واحدة، ليست لها أية قداسة ولا تحوي أيّة أسرار، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف، ولا تكترث بالخصوصيات، أو التفرّد أو المطلقات أو الثوابت، هذه المادة تشكّل كلاً من الإنسان والطبيعة…”،فالمسيري طالب بتأسيس حداثة قائمة على القيم، لذلك فصل في هذا الأمر في إحدى حواراته، وكأنه يدفع عن نفسه سوء الفهم والتأويل حينما قال: أعتقد أن مرجعيتا يجب أن تكون إسلامية…لأننا إذا لم نؤمن بالمرجعية الإسلامية فسوف نأخذ بالداروينية، ومن هنا يأتي التمييز بين ما أسميه بالعلمانية الجزئية ونظيرتها الشاملة، العلمانية الجزئية تعني فصل الدين عن الدولة، والدولة هنا كما قلت تعني كياناً صغيراً ينصرف إلى السياسة والاقتصاد بالمعنى المباشر، أما العلمانية الشاملة فهي ليست فصل الدِّين عن الدولة، وإنما فصل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية لا عن الدولة فحسب، وإنما عن حياة الإنسان بجانبها العام والخاص”.

س١٥ تميزت المدرسة المسيرية بإعادة النظر في طرق التفكير السائدة من أجل تطوير الواقع المعاش، لنفهمه بكل ابعاده دون اختزال، هل تتفقين مع هذه المقاربة الفكرية؟

أجل أتفق مع هذا الرأي، فهذه المدرسة ظهرت في سياق المراجعة الفكرية للكثير من الخطابات السائدة، وحاولت القضاء على النزعة الوثوقية التي تؤدي إلى التعصب والمغالطات الفكرية، وزعزعت المسلمات التي ترسخت طيلة عقود من الزمن، فالمسيري يعتبر أن أولى خطوات النضال والتحرر من سطوة الآخر تتمثل في فهمه أولا بطريقة عقلانية تتجاوز السائد والنظرة الأحادية الضيقة، ثم أنسنته برده لحدوده الطبيعية حتى نتحرر من مخاوفنا. .

-هناك من يتهم المسيري بمحاباة الصهيونية في حديثه عن سياسة الغرب تجاه اليهود وزرع كيانهم في فلسطين، هل التهمة ثابتة أم باطلة برأيك؟

التهمة غير ثابتة وهي صادرة عن تأويل فاسد لخطاباته الفكرية، أو عن قراءات مجتزئة ومبتورة تبتعد عن الموضوعية التي تقتضي الاطلاع على مشروعه الفكري ككل، المسيري يحاول تفنيد الفكرة القائلة بتجانس اليهود، لذلك يحاول تفسير سلوكهم وكل مايتعلق بهم من خلال نموذج تفسيري مغاير وعقلاني، لذلك يعتبرهم مجرد جماعات بهويات متعددة، وليسوا شعبا متجانسا كما يدعي الغرب، وهو مايبطل دعاوي أحقيتهم في أرض فلسطين، المسيري راجع بعض ما تم الترويج له كبروتوكولات صهيون، مبينا أن نظرية المؤامرة وشيطنة الآخر لا تخدم إلا الصهيونية بوصفها حركة عنصرية تهدف إلى التخلص من اليهود وتخليص أوروبا منهم عن طريق الترحيل والتهجير، إذ هدفها المزعوم وهو الشعور بالذنب ومحاولة رد الاعتبار لهم ليس كما يتبدى لنا، محاولة وضع الأحداث في سياقها التاريخي الحقيقي ومراجعة كل روجت له الخطابات السياسية والإعلامية الدولية جعلت البعض يسيء فهم رؤية المسيري، ويقوم بقراءة خطاباته على ضوء فهمه الضيق ونظرته الأحادية.

– قانون ثم فلسفة ثم نقد أدبي، ما علاقة كل منهما بالآخر؟

بالنسبة للقانون فقد كان تخصصي الأول، إذ سجلت في قسم الحقوق أولا ثم سجلت في قسم الأدب العربي كتخصص ثان، وجمعت بينهما في دراستي الجامعية، وأما الفلسفة فهوس معرفي لازمني منذ الصغر، لكني وجدت الخيط الرابط في تحليل الخطاب الفكري والقانوني معا، وفي محاورة نصوصها والكشف عن مضمراتها، هذا و يجب ألا ننسى أنه مع ظهور مايسمى بالتخصصات البينية التي تؤمن بالتكامل المعرفي صار الحديث عن النقاء المعياري لعلم ما غير مجد، فالمعارف تستفيد من بعضها البعض، كنا ندرس أيام الجامعة في القانون مايسمى بفلسفة القانون، حيث نتعرف على المرجعيات الفلسفية للنظرية العامة للقانون وللفروع المختلفة فيه، وكنا ندرس في الأدب مؤلفات مختلفة تحاول تفكيك الخطابات القانونية والسياسية وتحاول فضح أشكال الهيمنة فيها…، الحديث إذن عن النقاء المعرفي لأي تخصص لن يجدي لأنه سيتجاهل مرجعياته الفكرية وتحولاته الطارئة.

– رئاسة قسم ومهام إدارية وإشراف على طلبة الدراسات العليا ومحاضرات وندوات حضورية وافتراضية، أين تجد غزلان هاشمي نفسها بين كل هذه الواجبات؟

ليس الأمر بجديد فقد جمعت في دراستي الأكاديمية بين تخصصين مختلفين: الحقوق والأدب..، إذ كنت أنتقل بين القسمين في اليوم الواحد لتلقي التكوين، ورغم إن تخصصي الأول أي الحقوق كان يأخذ مني الوقت الأكبر إلا أنني استطعت إيجاد فسحة زمنية لتخصص الأول وللمشاركة في الأنشطة الثقافية والعلمية التي تقيمها مدينتي وجامعتي. .،هذا الأمر امتد ليشكل تشعبا في الاهتمامات وجمعا بين عدة اهتمامات في حياتي العملية كذلك، لكن أصارحك القول صرت مؤخرا أميل إلى التأليف، وصار مطمحي أن أتحرر من الأكاديمية الضيقة والمؤسساتية والتفرغ للكتابة ضمن فضاء أرحب وأكثر حرية، بل وحتى أكثر اعترافا بما تبذله من جهود وبما تنفع به الباحثين.
س٢٠ هل اخذتك هذه المهمات الكبيرة بعيداً عن الابداع القصصي؟ أم سنرى منك مجموعة ثانية ستبصر النور قريباً بإذن الله تعالى؟

حقيقة ابتعدت كثيرا عن الكتابة الإبداعية، والآن أنا كالتائه الذي ضيع طريقه، فالالتزامات الأكاديمية والكتابة النقدية أخذت جل وقتي، كما أن متعة القراءة وعملية التأويل عوضتاها باعتبار أنهما خلق لنص إبداعي آخر قائم على التجاوز والتغاير والتعدد، ضيعتني قاصة لكن ربحتني ـ إن جاز لنا قول ذلك ـ قارئة للنصوص تقف على تخوم الدهشة. .ومؤولة لا تطمئن للجاهز وللدلالة الظاهرة…

– المتابع لنشاط الدكتورة غزلان يجد لها تواصلاً معرفيا بالمدرسة الفكرية والنقدية العراقية بشكل كبير، كيف تقيمين هذه المدرسة مقارنة بالمدرسة الجزائرية؟

الأمر لا يتعلق بالأفضلية التي تحتم المقارنة، فلكل مدرسة خصوصيتها وإنجازاتها حتى وإن ظلت المدرسة الجزائرية عقودا من الزمن مهمشة، إذ استطاعت مؤخرا أن تفرض نفسها وأن تطور خطابا نقديا وفطريا متفردا، لكن اهتمامي الكبير بالمدرسة العراقية بسبب ما أجده من تقارب فكري وبسبب تناسبها مع انشغالاتي المعرفية، ناهيك عما وجدته من اهتمام كبير من قبل العراقيين بكتاباتي النقدية، فأولى مؤلفاتي إما طبعت بالعراق أو تولى طبعها أكاديميون عراقيون في دول عربية أخرى، كل هذه الأسباب مجتمعة جعلتني أهتم بالكتابة عن المنجز الإبداعي العراقي بل وحتى المنجز الفكري والفلسفي كعبد الله إبراهيم ومحمد الألوسي ورسول محمد رسول الذي أنا بصدد إنجاز بحث عنه…

شكراً جزيلاً لكرمك وحفاوتك واهتمامك بإنجاز هذا الحوار الشاق والمتعب لكلينا، وفي الختام ننتظر منك كلمة أخيرة توجهينها لطلاب الأدب والفلسفة في جامعتك وبقية الجامعات العربية.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

قبل ذلك أوجه شكري الكبير لكم على جميل الاهتمام والاحتفاء، وعلى هذه الفسحة المعرفية الماتعة، هذا وأقول لكل الطلبة :متعة البحث والتنقيب لا يضاهيها أي شيء، وإني لأرجو منكم ألا تفلتوا طريقه بسبب المادية المفرطة والاهتمام بالألقاب، ومن أجل تحصيل الشهادات كترف فكري وكبريستيج اجتماعي فقط.

 

 

مشاركة
2

العراق      |      المصدر: الزمان    (منذ: 1 أشهر | 3 قراءة)
.