اعترافات فيلسوف جهادي

"تستطيع أن تقنع أي أحدٍ برأيك إذا حاورته بلطف وفي يدك مسدس"..
مقولة طريفة تُنسب لألبيرتو كابوني، زعيم المافيا في شيكاغو مطلع القرن العشرين، بيد أني عشتها في حوار مع رجل يضع بندقية الدراغنوف معترضة بيننا، وأنا أناقشه في أفكاره، فليعذرني القارئ الكريم إذا وجد أني فوّتّ فرصة للاستدراك أو التغليط، فإما أن تُقدِّر ظرفي، أو أنك لم ترَ بندقية الدراغنوف بعد.
"لماذا لا يقتنع الناس بعقلانية خيار الجهاديين؟ لأنهم يستشهدون. لكنهم حين ينجون من الموت ويصلون إلى الحكم، يسمّونهم ثوارًا وطنيين. هذا نوع من الاحتواء الخطابي الذي يطوّقنا به أعداؤنا بعد وصولنا إلى العاصمة [دمشق] ببنادقنا".. قال لي همّام وهو يعيد قنّاصته إلى غمدها الجلديّ، وهو مقاتلٌ تجاوز سن الأربعين وخط الشيبُ لحيته وفوديه، وكان قد قبِلَ بالمقابلة على شرط أن آتيه في صومعته خارج المدينة، وبدون صفة صحفيّ.. قطعتُ إليه مئات الأمتار بين بساتين إدلب، دون وسيلة اتصال، لأنه لا يحب الأجهزة الإلكترونية، حتى انتهيت إلى مكان عزلته الذي يبدو مجاورًا لمعسكر تدريب مهجور يأنس به بعيدا عن الناس.
اقرأ أيضا
list of 2 itemsالكاوبوي الإسرائيلي.. الخبرة الأميركية لسرقة الأراضي الفلسطينية
"يبدو أنك لم ترمِ منذ زمن بعيد!" قلتُ له وأنا أنظر عبر المنظار إلى الدريئة التي كان يستهدفها على بعد 300 متر تقريبا، حيث لم يصب العلامة الحمراء في منتصف الدريئة.
بابتسامة ساخرة ودون أن يرفع رأسه وهو يعالج إعادة أغراضه إلى جعبته، قال: "ربما، ما يعرفه المثقفون من الرماية هو النقطة الحمراء"
- "والعسكريون؟" سألته ومازالت عينيّ على الدريئة أتتبه مواطن إصابته
"العسكريون يقيّمون مهارتك في تركيز إصاباتك. إذا وجدت إصاباتك مجتمعة في مكان واحد من الدريئة فتحكمك جيّد، أما إذا طاشت الإصابات وانتثرت على الدريئة دون تركيز فليس محمودا عندهم، ولو أصابت إحداها العلامة الحمراء.
على كل حال، نحن مقبلون على مرحلة سكون وخمول؛ كما تسمع في دمشق، أحاول أن أتعاهد مهاراتي في الرمي بشكل دوريّ حتى لا أقع في الإثم" يشير إلى الحديث النبوي الذي رواه مسلم (ت:261هـ/875م) في صحيحه "مَن عَلِمَ الرميَ ثم تركه فليس منَّا، أو قد عَصَى".
اختار همّام البقاء في إدلب بعد تحرير دمشق، لم يرَ نفسه مناسبًا للعمل المكتبي في الحكومة الجديدة. قال لي الوسطاء إن همّامًا مع عزلته، هو الأقدر على شرح ما حدث وسيحدث معنا، فهو أوسع الموجودين معرفةً وأطلقهم لسانًا. فبادرت إلى لقائه. جئته وأنا مشغول بفهم كيف تفكر الجماعات القتالية المتشبعة بالعقيدة بعد الوصول إلى الحكم.
كيف تفكر البنادق
- "كنت تتحدث عن العقلانية والجماعات القتالية وهما لفظتان متنافرة في وعي الناس".. قلتُ له محاولًا أن أقبض على فكرة مركزيّة بعد حوار طويل معه عن تاريخ الحركات المسلحة في الثورة السورية..
"ليست الجماعات القتاليّة، وإنما الجهاديون".. أجاب همام، ثم نظر إليّ نظرة فاحصة "تعرف أني قبلتُ باللقاء معك مع أني لا أحب الصحفيين، لكن حين تَواصل معي أبو سارية وقال لي بأنك باحث تحبّ أن تفهم الحالة، قبلت.. لأنني أحب أن أناقش من يبحث عن الفهم، وفي ساحات القتال تغيب مفردة الفهم؛ لغلبة التراتبية العسكرية، فبقاء الجماعة المقاتلة يقوم على تنفيذ الأوامر لا فهم أغراضها. وشرط الفهم أن تكون دقيقًا في استخدام المصطلحات.. الناس لا ترى تنافرًا بين العقلانية والجماعات القتاليّة، بل ترى تنافرها مع الجهاديين فحسب، نحن مجموعة من المجانين في أعين كثيرين.. قل لي أيّ فعل أوغلُ في الوحشيّة: إحراق مدينتين بقنابل ذريّة كما فعلت أميركا، أم إحراق بعض الجنود في أقفاص كما فعل تنظيم الدولة؟
- "أميركا جماعة قتالية؟".. رددتُ مستغربًا..
"بالطبع، أميركا وإسرائيل جماعات قتالية نووية، وكل الدول ذات الجيوش جماعات مقاتلة.. الجماعة المقاتلة هي من ترى في العنف خيارا مشروعا لحسم الخلاف وتقوية الموقف السياسي، سواء صغرت أم كبرت.. لكنْ ليس هذا موضوعنا.. كنت أقول إنك ستجد كلامًا طويلًا لعقلنة إلقاء القنابل الذرية على أحياء مدنية تحت عنوان الردع العسكري، بل وأنسنته أحيانا لأنه حفظ أرواح كثير من المدنيين بإنهائه الحرب الطاحنة التي لو استمرت لزادت فاتورة الضحايا..
بالاطراد مع هذا المنطق، ماذا لو نجحت عملية داعش في تحييد بعض الدول من المشاركة في التحالف لحربها، ألا يمكن أن يخرج من يجعل من هذا نموذجا عقلانيا وذا جدوى عسكرية، منطقه: أنه في حالة عدم تكافؤ القوى يمكن للإفراط في الوحشية أن يقوي موقف الطرف الأضعف..
دعني أذهب معك إلى أبعد من ذلك.. ماذا لو توقفت الثورة السورية بعد مجزرة الكيماوي، وألقينا أسلحتنا من هول المشهد.. عندها، ستشاهد التلفزيون الرسمي يحكي عن حكمة الرئيس القائد الذي كان حازمًا في خيار صعب عليه، لقد قرر أن يهزم الخارجين عن القانون بسلاح نوعي يحسم المعركة، وقتلُ الأطفال سيكون عبارة معترضة في الجملة الكاملة الأكثر بريقًا: لقد رأى السيد الرئيس أن النهاية الحزينة لحياة 1700 مدني، لم تكن عبثًا بل صانت حياة مئات الآلاف من السوريين الذين ماتوا بسبب عنادنا وإصرارنا على المواصلة..
على أية حال ما أريد قوله: إن الإفراط في العنف ليس خيارًا عدميًا كما يتصوّر الناس، بل أداة إيجابية لتحصيل منافع لمُمارِسِه".
تحت شجرة زيتون تفيأنا ظلها بعدما أخذت الشمس في الزوال، أخرج همام من حقيبته الخضراء موقدًا صغيرا متنقلا يعمل على الغاز وكأسين نظيفين وإبريقًا، ورغيفي خبز مُجعّدين، وفي أكواب ورقية قطعت من خواصرها، وضع زعترًا وزيت زيتون، ومكسرات نيئة غير محمصة.
"بسم الله، تفضل".. قالها وهو يصب الشاي، ويناولني بيده الخشنة رغيفًا.
"منذ أسبوعين وأنا في الشام لم أشرب شايًا جيّدًا، في دمشق أتذوق طعم نشارة الخشب في كل كأس أشربه" قلتٌ له باحثًا عن نقاط القوة في تلك السفرة الصغيرة.
"هذا شاي تركيّ، أحتفظ به منذ مدة لحالات الطوارئ، عادة ما أشرب نشارة الخشب التي تتحدث عنها.. في أيام النظام كان كل شيء رديئًا". على كل حال عُد بنا لما كنا فيه قبل قليل.
"نعم" قلتُ له، وأنا أضع رغيفي على كأسي ليفكَّ البخار المتصاعد منه شيئًا من تغضّنه. "يمكنني فهم هذا المنطق، ولكن ما أستشكله أنك تصف الأحداث بالعقلانية بعد أن ترى أثرها، أليست العقلانية وصفًا سابقا للفعل، لا لاحقا له؛ أقصد أن المرء يزن الأمور ثم يغلب على ظنه أن هذا الخيار أجدى، وبالتالي هو أكثر عقلانية، بغض النظر عما تؤول إليه الأمور بعد تنفيذه".
"أحسنت، كنت أستخدم منطقكم في الإعلام في معالجة الأمور، فأنتم تنطلقون من الحدث إلى القرار، فتقرؤون الوقائع رجوعًا وتقيّمونها على هذا الأساس، وهذا رأيٌ دَبَريّ، والرأي الدبري طبيعته إحصائيّة، فهو يحسب حساب البقّال فيقول هذه لنا وهذه علينا، بعد أن يرى مآلات القرار، وهذا لا علاقة له بالعقلانية، لأنه وصف بأثر رجعي، فالمغامرات العسكرية قد يسعفها الحظ وتعينها المصادفة فيكون لها أثر كبير وجدوى عظيمة.
والقرار المدروس المستوفي للأسباب قد يأتي بنتائج كارثية. عُد بنا إلى 1939، قبل إعلان بريطانيا الحرب بيوم.. بحساب ماديّ كان قرار بريطانيا بالحرب مع ألمانيا التي تفوقها قوة بكل المعايير العسكرية؛ قرارًا غير عقلاني، وإصرار تشرشل على مواصلته، فيه من الأنفة أكثر مما فيه من التدبير العسكري، ولولا تدخل الأميركيين الذي جاء لاحقًا، لكُنا اليوم نتحدث عن مدمن للكحول (كان تشرشل مسرفًا في تعاطي الشراب، ويحضر اجتماعاته حاملًا لكأسه) قامر بالإمبراطورية البريطانية في مغامرة غير محسوبة، بسبب غروره الإنجليزي".
"هذه مقاربة طريفة لتاريخ بديل".. قلتُ هذا وأنا أخرج مفكرتي الصغيرة من جيبي لتدوين بعض النقاط.
"ألم نتفق على أننا في مباحثة ونقاش، ولسنا في مقابلة صحفية؟".. قال بعدما أفلت خيطَ أفكاره!
"أريد أن أدوّن بعض النقاط حتى لا أنساها" أجبته.
"ما لا يعلق بذاكرتك، لا تحتاج إليه.. لا أحب أن تكتب وأنا أتحدث معك.. وما تخرج به من لقائنا في ذاكرتك فأنت حرٌ في تدوينه والتصرف فيه".
أعدتُ مفكرتي مغتبطًا بأن هذا إذن بنشر حديثه لاحقًا، فلم أتكلّف الدفاع عن فعلي.. "عُد بنا إلى التاريخ البديل".
"كنت أقول إن قراءة الناس للقرارات تبدأ من نقطة النهاية عادة، وتقييم عقلانية القرارات بهذه الطريقة ليس إنصافًا لمتخذيها. كان إنزال نورماندي مغامرة، كتب آيزنهاور خطاب الهزيمة قبل انطلاق العملية، ولو تغير الجوّ فجأة أو بقي الجنرال رومل على الجبهة بدلًا من الذهاب إلى زوجته ليهنئها بعيد ميلادها، لكانت لندن تتحدث الألمانية اليوم.. دعك من تاريخ العجم، ماذا لو لم ينجُ خالد بن الوليد من مغامرته في عبور بادية السماوة بجيشه -مع معارضة أهل الرأي لقراره- متجها إلى اليرموك، لسُجِلّ قراره الجريء كأكبر عملية انتحار جماعيّ، ولتغيّر تاريخ الإسلام في الشام.. العسكريون اليوم يدرسون تلك العمليات كخطط عبقرية، ومع ذلك، هاتِ منهم مَن يجسر على تنفيذها لو كان في موقع اتخاذ القرار؟".
عندما يمسك الجهادي بقلم المؤرخ
سيظل الصياد ملك الغابة حتى تكتب الأسود تاريخها
- مثل أفريقي
"هذه رياضة عقلية ممتعة لتصوّر تاريخ بديل بعد تعديل نقاط محورية في مسار الأمم"، قلتُ مثنيًا على طرافة الفكرة، ثم أضفتُ معترضًا "ولكني أجد صعوبة في تطبيقه على الحالة الجهاديّة، التي بدت حساباتها عدميّة في بعض اللحظات.. تريدون أن تواجهوا طائرات إف-35 والسوخوي ببنادق وقناصات، وتريد أن تقيس خياراتكم في إعلان الحروب على الجميع بخيار إمبراطورية لدخول حرب أو تنفيذ عملية عسكرية تتساوى فيها أحيانا احتمالية الفوز والخسارة.. هذه قراءة رغبوية لفهم التاريخ".
"المجاهد معنيٌّ بتغيير التاريخ لا مجرد فهمه.. يمكنك أنت أن تكتب فهمك للتاريخ في كتاب ضخم، وتناقشه في مجموعات قراءة، أو تأخذ عليه ترقية أكاديمية أو جاهًا اجتماعيًا، لكن ليس هذا ما يفعله المجاهدون. آفتُكم في أنكم تريدون فهم الحركات الجهادية من أفلام عادل إمام، ووحيد حامد، وهذا عبث!".
"أريد أن أفهمه منك، تفضل".. قلت ملاطفًا له بعد أن وقعت عبارتا "عدمية، وقراءة رغبوية" من نفسه موقعًا ليس بالحسن.
"هل تعرف ما أكثر الأشياء إغاظة لي.. أن يرميكَ المرء بعيب نفسه وأنت خلوٌ منه. حين يقول لي مسلمٌ يعيش حياة ناعمة، أكبرُ همه فيها مراقبة وزنه والتحكمُ فيه حتى لا تغلبه شهوة الطعام على صحته، والمسلمون يتعرضون للإبادة وبلدانهم للاحتلال المباشر والضمني، ثم يقول عن المجاهدين الذين تخلوا عن كل شيء في سبيل رفع الظلم والذل عن المسلمين، إنهم عدميون!"..
"لم أقصد الإساءة، وإنما أردت أن حسابات الجهادي التي تهمل فارق القوة، تفوّت مصالح معيّنة لطلب منافع ليس في مقدورهم تحصيلها"..
"أعرف أنك لم تقصد الإساءة، ولكن هذا شيء تسرّب إليكم من دراسات أعدائنا لنا، بوصفنا حركات عدميّة، لأنهم يقيسون كل شيء بميزان المادة".
- "أليس الحساب المادي هو أساس العمل العسكري؟".. قلتُ مستدركًا.
"بلى، ولكن فلسفتنا العسكرية في الأسباب المادية مختلفة، فهي تابعة للإرادة لا مُنشئة لها.. أنا لستُ مكلفًا بتحصيل الكفاية الماديّة، وإنما باستفراغ الاستطاعة في طلبها، وهذا يعني أني قررت القتال بما استطعت توفيره من وسائل، ولم انتظر حصول الكفاية المادية، لأنها لن تتحقق. وما دمتَ معنيًا بالجدوى، وقلتَ إننا نريد مواجهة السوخوي والإف-35 بالبنادق والقناصات، فيسرني أن أخبرك أن تلك البنادق والقناصات أزالت إمبراطوريات، وأرغمت أخرى على الانسحاب".
- "إذا كنتَ تقصد السوفيات في أفغانستان، والأميركيين في أفغانستان والعراق، فالأولى كان لانهيارها أسباب داخلية كثيرة، وأما خارجيًا فلا يمكنك أن تغفل دور الأميركيين في استغلال المجاهدين لمواجهة السوفيات، وأما انسحاب أميركا من أفغانستان والعراق فـ.."..
"قلت لك إن الفارق بيني وبينك في دراسة التاريخ أني أقف موقف من يريد أن يغيّره، وأنت تقف موقف من يريد أن يفهمه فحسب، ولذلك لن تتطابق القراءتان؛ أنت تبحث عن معلومات نظرية، وأنا أبحث عن المعلومات لإعداد خطة عمل.. تستطيع أن تحدثني ما شئت عن فشل البيريسترويكا، وضعف غرباتشوف، واستراتيجية الاحتواء الأميركية في الحرب الباردة، هذه نظريات مفيدة تناسبك وتناسب طلاب التاريخ في الجامعات، وقد تكون صحيحة، ولكن ما يعنيني أنا في التاريخ أن إرادتي في مواجهة السوفيات قطعت يدهم في أفغانستان، وصار الأمر بعد هزيمتهم إلى المجاهدين الذين اختاروا القتال مع عدم تكافؤ القوى.
أما عن الدعم الأميركي، فقد سئمتُ من ترديد الناس أن الأميركيين استغلوا المجاهدين، وقد استخدمتَها في كلامك قبل قليل، وهذا دليل على صوابية منطقنا العسكري في أن الإرادة هي من تخلق الأسباب الماديّة، فقرار المجاهدين كان سابقًا على الدعم الأميركي، فلماذا لا يكون المجاهدون هم من استغل الأميركيين لإنهاء الاحتلال السوفياتي لبلادهم؟ صدقني، الإرادة تغيّر كل نظرتك السياسيّة، لأنها تنقلك من المفعوليّة إلى الفاعليّة".
- "ولكن بالنظر إلى المستفيد الأكبر سنجد أن وصف المفعوليّة أليق بمن استفاد فائدة محليّة محدودة، وليس من بسط نفوذه بعدها على العالم".. قلت معلقًا.
"أميركا هي الفاعل الأكبر؛ هذا طبيعي بميزان القوى المادية، لكن القصة لم تنتهِ هنا. صحيح أن الولايات المتحدة تخلصت من القوة العالمية المنافسة لها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، الذي كان كسرُنا له في أفغانستان بدايةَ تفككه".. نظرَ إليّ وابتسم لأول مرة ابتسامة ودّ، وقال: "على الأقل هذه روايتي التاريخية، ولك أن تختلف معها".
"يوافقك عليها بريجنسكي بالمناسبة، المستشار والعقل الاستراتيجي لجيمي كارتر، فهو يرى أن الاتحاد السوفياتي بدأ تفككه بسبب تورطه في الحرب مع الأفغان".. جاوبته بودّ.
في مقابلة لبريجنسكي في صحيفة "لونوفال أوبزرفاتور" (Le Nouvel Observateur) الفرنسية عام 1998، سأله الصحفي هل ندمَ على مساهمته في صعود طالبان إلى الحكم:
"ندم؟ ماذا؟ تلك العملية السرية كانت فكرة ممتازة.. لقد جذبت الروس إلى الفخ الأفغاني، وأنت تريدني أن أندم؟ ما هو الأهم في التاريخ العالمي؟ طالبان أم انهيار الإمبراطورية السوفياتية؟ بعض المسلمين تحمسوا للفكرة، وهذا طبيعي. لقد كانت القضية عادلة، ضد الاحتلال. ولكن، دعنا نكن واقعيين: ما الذي غيّر العالم أكثر: انهيار موسكو أم صعود طالبان؟".
واصل همام "كنتُ أقول إن القصة لم تنته بتخلّص أميركا من الاتحاد السوفياتي كمنافس على النفوذ العالمي، هذا جزء من المشهد، ولكن في زاوية أخرى كانت القاعدة قد وُلدت والتي ستؤمّم إرادة المجاهدين بعدها لمواجهة أميركا التي بقيت القطب الأوحد في العالم. وقتها قرر الشيخ أسامة أن يحيّد امتيازاتها في الجغرافيا السياسية باستدراجها إلى حرب مفتوحة، وسيشغلها في حرب متواصلة على مدى عقدين، ثم تنسحب من أفغانستان ويبقى القرار فيها لمن حمل السلاح واختار الصمود.
وكما كانت إرادة المجاهدين سببا في أفول قطب السوفيات، فقد كانت إرادتهم سببًا في صعود قطب الصين، وصارت الصين اليوم حليفًا محتملًا للأفغان في تحقيق استقلالهم بعيدًا عن الهيمنة الأميركية، واسمح لي أن أسجل رواية انتقائيّة أخرى، إذا أدركتَ أفول الإمبراطورية الأميركية، وأردت أن تؤرّخ لأفولها فلتكن نقطة الانحدار تورطها في الحرب مع الأفغان، بتعبير صاحبك بريجنسكي".
"هذا أمر سيستغرق وقتًا، لكن يمكنني أن أسجلها كوصية لمن سيشهد الأفول من ذريتي".. قلتُ ممازحًا، وأضفتُ "مع هذه المحكيّة الطريفة، يبدو أن الفكر الجهادي الذي يتوخى استعادة مجد الأمة التليد، أعاد مجد الكونفوشيوسية الصينية بشكل عرَضي!".
غرس القاعدة تحصده الهيئة
عادت الجدية إلى ملامح وجهه بعد دقائق انبساط، وقال: "الجهاد تقويم مستمر لمسار الأمة. أعلى تجليات الإسلام هو الأمة الملتزمة به، وتمكينها يقتضي منكَ تجاوزك لحظوظ نفسك وتضحيتك بها، ولذلك كان الجهاد ذروة سنام الإسلام. هذه معادلة نفهمها جيّدًا، وقدم كثيرون من إخواننا أرواحهم استثمارًا لنشرها.. كم أستغربُ ممن يتحدث عن أستاذيّة العالم، ويستبعد خيار الجهاد!
لقد قام فكر القاعدة على الطليعة المؤمنة العابرة للحدود التي تستنهض المسلمين، للقيام بهذه الفريضة المهجورة. وهذه الاستراتيجية، وإن لم تُقم دولةً بعد، أفشلت مشاريع استعمار واحتلال خارجية، كما أنتجت خبرات تنظيمية وقتالية، أثمرت الثورة السورية. لا يمكن أن تتخيّل مآلات الثورة السورية بدون الخبرات الجهاديّة.. ما يقدمه النموذج السوري اليوم، هو مراكمة على هذه الفكرة مع تخصيص لها في إطار محليّ قُطريّ، لننتقل من مرحلة الطليعة إلى مرحلة الدولة. مع نجاح هذا النموذج إن شاء الله، سيكون استنساخ التجربة أكثر جدوى من فكرة الجهاد العالمي، الذي كان مفيدًا في مرحلة نشر الفكرة، ولكنه قد يعوق إقامة الدولة".
بعد تحرير دمشق اكتسب الجهاديون ثقة بفكرتهم حتى صاروا يعاملونها كعلامة تجارية يمكن استنساخها. هذا ما خطر ببالي ولم أقله.
"تتحدث عن التجربة السورية وكأنها نموذج مثالي للفكر الجهادي، مع أننا لو التقينا قبل عملية ردع العدوان لكان حديثنا يدور حول اقتتال الفصائل، والخوف من تنظيم الدولة، ومسائل التكفير.. لقد صارت الثورة إلى حرب أهلية كما يقول الأكاديميون.. وصولكم إلى قصر الشعب لا يعني أن يُكنسَ تاريخ من الاقتتال العبثي، ولن أقول العدمي لأنها تزعجك، تحت السجادة الحمراء التي بُسطت لكم على قاسيون".. قلتُ محاولًا استثارته.
"لولا القتال العبثي الذي تحكي عنه لما تمّت عملية ردع العدوان.. أنت تنسى أن النقاش بين المسلحين لا يقوم على الحجج المنطقيّة، ولا بد فيه من الحسم بالقوة. توحيد الفصائل كان هدفًا رئيسيًا للتجهيز لمعركة التحرير.. لقد كنا ندفع فاتورة الفصائلية دمًا وأرضًا، فلما حسمنا الملف صار تقدمنا إلى حلب ممكنًا. الحروب الأهلية مفرزة للقادة على أية حال، هي اختبار لأصحاب المشاريع الأكثر جاهزية التي لا يمكن أن تنضج على ورق، ولا في أجواء سلميّة.. لقد فحصنا معادن قادتنا تحت النار، ووجدنا صاحبنا أمثلهم رؤية وأوسعهم حيلة.
بالمناسبة، تخيّل تاريخ الولايات المتحدة بدون الحرب الأهلية، ماذا سنعرف عن واشنطن وجيفرسون آباء الحرية الأميركية؟ كانا مجرد تجّار للرقيق، يتحدثون عن الحريّة في قصورهم الريفيّة، ويمارسون أبشع صور الاستغلال للعبيد.. لقد أخذتهم الحرب الأهلية لبناء أمة وصاروا رموزًا لها.. الحروب الأهلية تروسٌ في آلة الوثب التاريخي".
- "اسمح لي أن أمارس لعبتك الممتعة بضغط زر التوقف في شريط التاريخ.. لو وقفنا في محطات 2017 و2019 و2020، وهي سنوات قتال الهيئة لفصائل ثورية، لبدا للناظر أن مشروعًا جهاديًا قام على نصرة المظلومين لقتال نظام مارق، تَحول إلى قتال رفاق السلاح لمطامع سلطوية، وبالتالي كل شعارات الالتزام بالشريعة تصير عرضة للاختبار باستحلالكم دماء إخوانكم لغرض دنيويّ.. أليس كذلك؟". سألته
شهد شمال غرب سوريا منذ 2017 سلسلة من الجولات الدامية بين هيئة تحرير الشام وعدد من الفصائل الثورية المنافسة، في مشهد يعكس الصراع على النفوذ والتمثيل العسكري داخل مناطق المعارضة. ففي يوليو/تموز 2017، شنت الهيئة هجومًا واسعًا على حركة أحرار الشام، انتهى بسيطرتها على مدينة إدلب وطرد الحركة منها، ما شكل تحولًا استراتيجيًا لصالحها.
وفي مطلع 2019، وجّهت ضربتها القاصمة لحركة نور الدين الزنكي في ريف حلب الغربي، متهمةً إياها بارتكاب تجاوزات أمنية، لتنتهي المواجهات بتفكك الزنكي وانسحابها نحو مناطق "درع الفرات". كذلك، اشتبكت الهيئة مع فصائل الجبهة الوطنية للتحرير في أكثر من موقع، قبل أن يُفرض وقف إطلاق نار هش برعاية تركية. سبق هذه الجولات أيضًا تصفية تنظيم "جند الأقصى" في صدام دموي سابق. عبر هذه المعارك، فرضت الهيئة هيمنتها على إدلب ومحيطها، وكرّست واقعًا عسكريًا جديدًا تقوده عبر ذراعها المدنية: حكومة الإنقاذ.
"ليس كذلك.. لم نستحلّ دماءهم، ولم نَصر إلى خيار القتال إلا بعدما عرضنا عليهم خيارات التعاون والدخول في الطاعة، فلما أبوا قاتلناهم قتال البُغاة.. كانت المعادلة لدينا إما أن نقضي عليهم أو ننتظر أن يقضي العدو علينا جميعًا، ولم يكن الخيار صعبًا..
لأكنْ صريحا معك، رغبتك في فهم الحالة لم تكن لتحصل لو بقينا في إدلب.. الناس يجذبهم النجاح، وما كنا لنحققه إلا بسلوك هذا الطريق. لا أحد يريد أن يطلع على يوميات الجوع والحصار والقتال.. كنا نراسل كثيرا من أبناء الثورة ممن خرجوا: ينبغي أن تعودوا لأننا نحضر لمعركة قادمة مع النظام".
"دعني أخمن، لم يرغب أحد أن يراهن معكم بنفسه".. قلتُ معلقًا
"الناس تراهن بأموالها.. وحده المجاهد يراهن بنفسه، لأنه يدخل صفقةً الضامنُ فيها هو الله.."
"عرفتُ أنكَ اعتزلت قتال الفصائل، ولم تشارك فيه، فكيف تنظِّر له هذا التنظير!".. قلت متعجبًا.
"يبدو أن أبا سارية لم يدخر عنك شيئًا!. على كل حال، كان رأيي مع توحيد الصف، ولو بالقوة، وكان ميزان القوى يميل إلى الهيئة، والمعركة محسومة، فلم أرَ أنهم بحاجتي".
ما زالت علامات التعجب تسطع من عيني "هذا ورعٌ في الفعل، وجرأة في التنظير!".
"لم أفارق أهلي لقتال مسلمين، الورع مذهب شخصي، وقد يضر بالجماعة، لأن طبائع الناس متفاوتة، وحملهم على الأمثل مستحيل.. العامة لا تنتفع إلا برجل بصير بتدبير شؤونهم، لا يتورع عما يصلحهم".
- "وهذا ما تراه في أميركم؟"..
ذاك رجلٌ جاء وهو يرى نفسه أميرًا، وقد جربنا كثيرين فلم نجد أمثل منه. كان في الأحرار قادةٌ لو عاشوا، ولكنهم جماعة أضرت بهم الشورى وأضاعهم غياب الحزم، كان عليٌ أورع من معاوية وأعلم، ولكن معاوية أسوس وأبقى.. كان الأحرار أتقى، وصاحبنا أبقى. لقد قاتلناهم على أفكار صرنا إليها، ولكن بكفاءة سياسية أعلى".
عندما يصل الجهادي إلى قصر الحكم
قال يحيى بن أكثم : قال لنا المأمون: لولا مكان يزيد بن هارون [من علماء الحديث ت206هـ/821م]، لأظهرت القول بأن القرآن مخلوق، فقيل: ومن يزيد حتى يُتقى؟ فقال: ويحك إني لأرتضيه لا أن له سلطنة، ولكن أخاف إن أظهرته فيرد علي، فيختلف الناس، وتكون فتنة.
- سير أعلام النبلاء
- ماذا إذا اقتضت الكفاءة السياسية التخلي عن أساسيات المشروع، ماهو سقف البرغماتية التي تمارسونها؟
"لقد صدعتم رؤوسنا بالبراغماتية، ما هي البراغماتية؟ طلبُ المصلحة؟ نحن نقول حيثما كانت المصلحة فثمَّ شرعُ الله.. هل يوجد أكثر براغماتية من هذا؟".
"لكن المصلحة قد لا تكون معتبرة شرعًا، فبيعُ المخدرات أسرع الطرق إلى إدخال توفير سيولة مالية وهو شيء تشكون منه كثيرًا، فهل تتعاملون معها كمصلحة لتقوية اقتصادكم، مصانع الكيبتاغون مازالت موجودة إذا أردتم تنشيطها!".
"يا رجل! كنتُ أظن أننا تجاوزنا الاحترازات.. المصلحة عندي مصطلح شرعي، فكل ما لا يعتبره الشرع مصلحةً فليس داخلًا في كلامي، ولا تشتمله تلك المقولة.. كنت أظن أننا نتحرك في مجالٍ تداوليٍّ واحد.. ألا تقولون هكذا؟ مجال تداوليّ. هذا نقاش بين مسلميْن يُقرّان بمرجعيّة الوحي، نحن لا نرى لأنفسنا وجودًا خارج أسوار الشريعة، أم أحسنتُ فيكَ الظن؟!".
"أرجو أن أكون عند حسن ظنك.. لكني ضربت مثالا فاقعًا لأختبر حدود فكرتك عن المصلحة.. قد تكون المخدرات نموذجا متفقا عليه عندكم.. طالبان مثلا أغلقت بابه وكان بإمكانها التعلل باضطرارها إليه، أصدرت مرسومًا في أبريل/نيسان 2022 يحظر زراعة الخشخاش، المصدر الرئيسي للأفيون، بالإضافة إلى حظر تصنيع وتجارة وتصدير واستيراد جميع أنواع المخدرات..
- لكن ماذا عن الربا؟ هذا الاقتصاد العالميّ قائمٌ عليه، وأصحابكم في الحكومة يتحدثون عن التنمية ليلَ نهار والانفتاح على الاستثمارات، فكيف سيصنعون مع البنوك الربوية؟".
أخذ يمسح عارضيه ويقبض على لحيته بشدّة.. "هذا سؤال يؤرقني ويؤرق غيري من الإخوة.. دخولنا في مسار الدولة سيُكرهنا على خيارات معيّنة، ولست خبيرًا اقتصاديا لأقدم لك خطة عمل للتعامل مع البنوك الربوية. لكن ما أعرفه أن مسار الحكومة ينبغي أن يكثّر الخير ويسدّ ما يستطيع سدّه من أبواب الشر والمحرمات.. هذا المسير يرضيني، وأراه موافقا لمقصود الشرع.
حرمة الربا يقينية لدينا، محل النقاش فقط: هل يستطيع الإخوة إغلاقه دفعة واحدة أم على مراحل؟ هذا موضع اجتهاد من يباشر المسؤولية. هذه مسيرة طويلة، إصلاح المجتمعات يحتاج إلى فسحة في الوقت.. لقد حُرم الزنا دفعة واحدة، لكن في الخمر تدرج حتى نزل تحريمه في السنة الثامنة.. هذا نموذج معبّر ينبغي أن يُتأمل".
أفهم هذا التدرّج في وقت التشريع، وهو أمر رآه الشارع، لكن المدرسة السلفية التي تنتمون إليها ترى تطبيق الشريعة جملة واحدة، وترى أن الاحتجاج بموضوع التدرج لا يحل لكم بعد اكتمال الرسالة!.
"لستُ معجبًا كثيرًا بإطلاقات الانتساب إلى المدارس.. لكن على كل حال، أنا من مدرسة الاقتصاد في الأفكار والنقاشات الافتراضية، وهذا ما لا يفهمه من لم يجرب الجهاد. في الميدان تلبس الأفكار جعبة عسكرية، تقتل وتجرح.. ما تناقشونه من مسائل الصفات الإلهية في المجالس ببرود، نجنيها هنا دمًا.. الشباب هنا لا ينتهون بعد نقاش مسائل التكفير بوضع حدود دقيقة بين العمل الكفري والعمل البدعي، بل بقائمة أهداف..
ينبغي أن تنظر إلى الأمر من جهتين: لسنا نبيح ما حرمه الله، فالربا محرم، ولكن منعه ابتداءً قد يضر ببقاء الضامن لتطبيق الشريعة في هذا المجتمع، وهو نحن.. الشريعة لن تطبق إذا ذهب حاميها.. القرآن ليس له قدمان يسير بهما إلى لجنة الدستور ليشارك في كتابته، وكتب الفقه ليس لها لسان تنطق به في مجلس الشعب..
صاحب المشروع هو الذي يستهدي بالقرآن في كتابة الدستور، وهو الذي يطوي قلبه على الشريعة ويسن القوانين.. وجوده هو ضمانة لبقائها، وبالتالي حفاظنا على بقائنا في السلطة من الواجب الذي لا يتم واجب تطبيق الشرع إلا به.
- "هذا منطق غائم، كيف نفرق لاحقًا بين ما تفعله السلطة لمصلحتها وما تفعله للتمكين للتعاليم الإسلامية. في دمشق بعد دخولكم، أغلقَ بعض التجار حاناتهم وملاهيهم في الشام، لما يفترضونه فيكم من منع المحرمات، ولكن جاءتهم رسائل تطمين لمعاودة أعمالهم.. كيف يكون باعث هذا الفعل؛ التمكين للشريعة؟
"لا أتفق مع كل القرارات التي يتخذها الإخوة هناك، ولكني أثق في دينهم، وقد يخطئون التقدير".
- وتريد من الناس أن يثقوا بهم لثقتك بهم؟ ما الضامن لهم من عدم الانحراف؟
"لا ضامن، إذا كنتَ ترى في نفسكَ قدرة على تقديم ضمانات أكبر لتطبيق الشريعة، فشكِّل فصيلًا وتغلّب على الحكم!" قالها بنبرة غاضبة وكأني وجهتُ إهانة مباشرة له بالتشكيك في نيات أصحابه!
"الأمر أهون من هذا.. لماذا لا يحصّن المشروع بإراداتٍ متعددة، إذا مالت إحداها قوّمتها البقيّة".. قلت له وأنا أتكلف التبسّم ..
"لم أفهم.. ماذا تقصد؟".. ردّ وعلامات الاستفهام تملأ وجهه، على ما فيه من انزعاج من إساءة متوهمة..
"حسنًا لنتحدث بشيء من التجريد حتى نخرج من تهمة القدح في أشخاص تُجلّهم.. حين تُخبرني جماعة وصلت إلى السلطة أن مقصدها تمكين الشريعة، فمن الطبيعي أن أنظر إلى موازين القوى داخل تلك الجماعة، فإذا رأيتُ اعتدالًا في موازينها وأمرَها يقوم على الشورى، تَرجّح لديّ قدرتها على تصحيح مسارها عند حصول الميل الطبيعي. أما إذا كان الأمر محصورًا في فرد منها، والبقية يتابعونه على رأيه، فلا أسهل على من حملهم اليوم على رأيه، أن يُقنعهم غدًا بهواه! وعليه يكون المشروع مهددا من الداخل لاتكالنا على الوازع الديني لفرد".. قلت وأنا أتتبع مواقع كلماتي منه وأثرها فيه، فلم أجد استياءً..
"فهمتُ"، وبعد سكتة قصيرة، قال: "لا يمكن، لا تقوم التنظيمات على إرادات متعددة.. القائد هو مركز الثقل وصانع القرار.. هذه هي طبيعة الأمور، وعلى البقية النصح، والطاعة.. لا، لا يمكن أن تقسم القوة على أشخاص بالتساوي، لن يستقرّ التنظيم بهذه الطريقة!".. بدا وكأنه يتحدث إلى نفسه أكثر من توجيه جوابه لي، وكأنه يطرد خاطرًا مزعجًا.
"إن لم يتوفر هذا في التنظيم فقد فات وقت إيجاده، فمراكز التأثير قد استقرت، وروابط الولاء قد يبست.. لكن يمكن أن يوجد خارجه؛ في المجتمع.. إذا قويَ المجتمع وانتشرت فيه توعية راشدة، فسيكون بعلمائه ووجهائه ثقلًا وازنًا يحصّن التجربة بعض التحصين.. الاختبار الحقيقي لكم، في السماح بأن يُبنى هذا المجتمع دون تسلّط منكم".
"ولكن.." قال.. فلم أمهله وقلت مستدلًا
"خذ نموذجَ عمرَ بن الخطاب حين وليَ السلطة، وأراد أن يفحص ميزان القوى وقابلية الناس للاستبداد، فقال له محمد بن مسلمة: لو ملتَ عدلناك كما يعدل السهم في الثِقاف، فقال عمر (مستغربًا): هاه! فقال: ولو ملتَ عدلناك كما يعدل السهم في الثقاف، فقال: الحمد لله الذي جعلني في قوم إذا ملت عدلوني.. ولو نظرتَ إلى القرون الثلاثة المفضلة، لأبصرت في كثرة الثورات حساسيّة مفرطة من انحرافات السلطة".
"وهل توجد اليوم حساسيّة أكثرُ حدة من حساسيّة المجاهد؟".. قال مستنكرًا.
"لا أشكُّ في فرط حساسية المقاتل الذي اتخذ أكثر الخيارات جذريّة لتغيير واقعه، ولكن هذه الحساسيّة قد تقلّ كفاءتها حين تدخل مجال الجماعة، لأن حساسيته شعور قد تزحمها مشاعر الولاء والألفة والمحبة، فتضمر"..
وما الذي رأيته عندنا حتى تقول هذا؟
"لست خبيرًا بكم، لكني قابلت عددًا طيبًا متفاوتا في الرتبة والفهم والمستوى التعليمي، فوجدتُ عبارات الرجل تتكرر على كل لسان، بدا لي أنهم يجيبون من محفوظهم لا من عقولهم وهذا يقلقني، حين حدثتُ أبا سارية بهذا الانطباع اقترح عليّ مقابلتك"..
كنت أتوقع أن أن يسألني، عن انطباعي عنه. ولكنه لم يفعل. قال لي: لقد دخل وقت الصلاة. إذا أردتَ الوضوء فخذ هذه القنينة. تناولتها منه وشعرتُ أنه يرغب في إنهاء الحديث. فألقيت إليه سؤالًا أخيرًا
- قل لي ما الذي ترونه في إسرائيل اليوم؟
"عقيدة الناس هنا مضطربة.. يقولون لك إنهم لم يروا منها ما رأوه من إيران."
- "سألتُ عما تراه أنت لا الناس.."
أجابني وهو يخلع معطفه العسكري، ويستعد للوضوء "أرى أننا ضعاف لا نقوى على مواجهتهم، ونحتاج إلى وقتٍ للإعداد.. الجهاد ليس خيارات انتحارية.. تنهد ثم قال: هذا ما يقولونه لنا وأراه بعقلي، أما ما أراه بقلبي فأنا أحب أن تفتح الجبهة اليوم ونلتحم معهم.. طالب الشهادة لا يبالي بموازين القوة كثيرا.. على كل حال، عدوانهم المستمر علينا يبني شعورًا مشابهًا لدى كثيرين."
- هل تظن أنكم قادرون على خداعهم؟ لن يقبل الإسرائيلي بأن تُراكموا أيَّ قوة..
"لقد نجح السنوار في خداعهم، فلماذا لا نقدر نحن على ذلك؟ قصة هذا الفتح عجيبة، لقد التقت مصالح الجميع على نجاح تجربتنا.. أنصار الربيع العربي يروننا امتدادًا لهم، والثورات المضادة تريد تقليم النفوذ الإيراني، وأميركا تريد استقرارًا في المنطقة يفرّغها لمعركتها الكبرى مع الصين، وإسرائيل تخشى فوضى لا يمكن السيطرة عليها.. لأمرٍ ما يجمع الله المسلمين في الشام."
تحت شجرة الزيتون توجهنا نحو الجنوب. لم يقدّمني للصلاة، ولم يسألني هل أقصر أم أتم، جعلني عن يمينه وكبّر.