بين المتعلم والمثقف

مرة كنت في مقهى بفاس فرأيت عميدا سابقا لكلية الآداب والعلوم الإنسانية يتحدث مع بعضٍ من علية القوم، فحياه كاتب معروف فلم يهتم به ولا بتحيته، فاستفسرت من كان معي في جلستنا وكانوا يعرفونه أكثر مني.

قال أحدهم: رغم المنصب السابق وشهادة الدكتوراة والكتب الكثيرة التي أصدرها فهو كالحمار يحمل أسفارا، لم ينفعه علمه في التأمل في صلب الحياة والمجتمع والكون، ما يهمه هو السباق الطبقي ومقارعة أصحاب الملايين والملايير، قصورا وسيارات فخمة وخدما وحشما وما لا ينتهي في أفق الناس التافهين.

هذا ذكرني بفترة شبابي، وقد كنا مجموعة من الفتية نسكن مركز الدرك الملكي بآسني قريبا من مولاي إبراهيم طير الجبال، وكانت هناك ضيعة لإحدى الأميرات يشرف عليها رجل كنا نسميه دّا ابراهيم، وهو أمازيغي من جنوب المغرب.

كان يحتفل بزياراتنا له ويهيئ لنا شايا استثنائيا بأعشاب متعددة، وكان حكيما دون شواهد، يسمع من الناس ويضيف من تأملاته العجيبة حتى أضحى مرجعا في كل حيرة تصيبنا.

سألته عن سبب عدم إنجابه للأطفال وهو من جهة معروفة بكثرة النسل، فرد عليّ رحمه الله: – خفت نجيبهم للدنيا ما يديرو طايلة مع سيدي ربي ويعمّر بيهُم جهنم.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} آنذاك لم أستوعب كلامه لكن بعد أن ذهبت ردحا طويلا في العمر عرفت أن الرجل مثقف دون شواهد ويتأمل نفسه وخارج ذاته بحكمة لم يملكها البغل المذكور عميد كلية الآداب.

المتعلم قادر على الحصول على شهادات عليا وكفاءة علمية نظرية أوعمَلية على الأرض، طبيب أو مهندس أو أستاذ جامعي أو مخترع أو غير ذلك، وقد تتعدد مواهبه التعلّمية دون أن يكون مثقفا، لأن المثقف هو الذي يتشرب المعرفة والعلم ويخترق العادات والتقاليد والمقدسات الظالمة، من يمتلك حسن النظر في جوهر الأشياء ويعلي ما يستحق وينزل بما لا يستحق.

تجد اليوم الكثير من البغال تعجبك أجسامهم وأموالهم وسُلَطُهم وهم لا يساوون شيئا في ميزان العقل والتمييز الصحيح، لأن معيار احترامهم للآخرين وتقديرهم لهم ينحصر في كمّ المال والسلطة.

وقد تجد من يدعي الفن والإبداع وهو من ذلك براء، مثل هؤلاء الذين تابوا عن الغناء والتمثيل واستغفروا الله من ذنب عظيم واعتبروا الفن عفنا أو رجسا من عمل الشياطين، كل ذلك لأنهم متعلمون لا مثقفون، علما أن السواد الأعظم منهم لا هم متعلمون ولا مثقفون.

وقد فاجأني كاتب مغربي “كبير” حين أخبرني أنه عازم على شراء سيارة فاقترحت عليه بعضا من الماركات ذات السمعة الجيدة فرد علي: – لا، هاد المرة باغي نشوف الناس من الفوق.

كان يقصد أنه سيشتري سيارة كاط كاط، وبقدر ما علا فوق سيارته وتبختر فوق رؤوس الناس بقدر ما سقط من عيني في الدرك الأسفل من الاعتبار والتقدير.

حين شاهدت فيلم “أوبنهايمر” استطعت أن أميز العالِم المتعلم من العالم المثقف، ذلك أن أينشتاين لم يكن عبقريا في الفزياء فحسب وإنما كان مثقفا، اقترب من درجة الفلاسفة، بينما أوبنهايمر لم يتجاوز كونه فيزيائيا في خدمة العسكريين، مهما حاول تبرير صناعة القنابل النووية التي قتلت مليوني ضحية ياباني.

شخصيا، حاولت بدء حياتي دون أن أجني على أحد، مثل سارتر أو أبي العلاء المعري أو حسن المنيعي أو أحمد بزفور، لكني فشلت وتزوجت وأنجبت بريئة واحدة، أتمنى أن تسامحني على أنانيتي، واقتنعت أني لم أتشرب جيدا المعرفة والعلم كما ينبغي، ولم أتجاوز درجة خروف وسط القطيع، وأني لم أرْقَ بعد إلى درجة مثقف.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 2 أسابيع | 3 قراءة)
.